تاريخ مكة قبل الاسلام وقبل الفتح / جزء 13

. . ليست هناك تعليقات:



تاريخ مكة قبل الاسلام وقبل الفتح
الجزء الثالث عشر
تاريخ مكة قبل الاسلام وقبل الفتح / جزء 13


الدفاع عن تجارة الرقيق سبب اقتصادي لرفض اهل مكة للاسلام

تاريخ قريش يفيد أنه كان للرقيق والخمر حجم لا بأس به من تجارة العرب بين الشمال والجنوب (ق.س). وكانت للرقيق فوائد كما كانت له مضار كذلك. فهـو كان خيراً من حيث إنه كانت يؤمِّن الأيدي العاملة الرخيصة في التجارة والبناء والزراعة والحِرَف اليدوية وخدمة البيوت وأعمال التنظيف والطهو والحراسة. وكانت القوة العسكرية والأمنية للملأ الأعلى من هؤلاء العبيد الذين كانوا يحمون الأماكن المقدسة وبيوت الملأ الأعلى ومصالحهم .

(اختلف المؤرخون العرب في تعريف «الملأ الأعلى». فهم أشراف القوم الذين يملأون العين أبهةً والصدور هيبةً. والراغب الأصفهاني قال إنهم من يملأون العيون رواءً ومنظراً والنفوس بهاءً وإجلالاً. وحسين مروة قال إنهم كانوا جماعة من التجار والمرابين يمسكون السلطة عن طريق المال وهم البذرة الأولى للسلطة السياسية القمعية.)

كما كان الرق سلعة تجارية في حد ذاته، يُباع ويُشترى. إضافة إلى أن الرق كان مصدراً من مصادر الرزق في المجتمع المكي حيث كان الأسياد/القوادون يفرضون على العبيد من النساء ما كان يُسمَّى «المساعدة»، وهي مقدار من المال على العبدة أن تأتي به لمالكها كل شهر أو في كل مدة محددة من خلال الزنا. وكانت هناك مجموعات كبيرة من العاملين في تجارة الرقيق الواسعة تعتاش من وراء هذه التجارة، وهم الذين يقومون بـ «إعادة إنتاج الرقيق» من خلال عمليات التهذيب (Grooming) وذلك بتنظيفه وتقليمه وتزيينه وتحضيره للبيع. وهؤلاء هم الصبَّاغون والمزيّنون ومنتجو العقاقير التجميلية والعطّارون والمطيّبون والمدلّكون والخيّاطون وأطباء الأسنان والمخضِّبون والمقيّنون .

(اختلف المؤرخون العرب في تعريف «الملأ الأعلى». فهم أشراف القوم الذين يملأون العين أبهةً والصدور هيبةً. والراغب الأصفهاني قال إنهم من يملأون العيون رواءً ومنظراً والنفوس بهاءً وإجلالاً. وحسين مروة قال إنهم كانوا جماعة من التجار والمرابين يمسكون السلطة عن طريق المال وهم البذرة الأولى للسلطة السياسية القمعية.)
وغيرهم، إضافة إلى مجموعات كبيرة من النخّاسين. وكل هؤلاء كانوا يعتاشون من تجارة الرقيق و«إعادة إنتاجه»، وتحضيره للبيع من جديد في أسواق الحجاز وغيرها.

وعندما جاء الإسلام ودعا إلى حرية الرق وتحريره، دعوة أخلاقية إنسانية (1) وحرّض العبيد والرقيق على نيل حرياتهم (2) ، وتمتعهم بالحياة (3) كما كان الرسول يؤلّب العبيد على أسيادهم، ويقول لهم: «إتبعوني أجعلْكم أنساباً»، كان لهذه الدعوة أثر سلبي مباشر في الازدهار التجاري والمالي للحجاز بعامة، ولمكة بخاصة، وخاصةً لو علمنا أن العبيد (ق.س) كانوا يشكّلون في مكة جيشاً مدنياً وأمنياً مُنظماً يقوم بحراسة القوافل التجارية وحمايتها وتوفير جو الأمن والطمأنينة على طرقات القوافل، وفي مكة نفسها.

كما كانت غالبية المسلمين الأوائل في مكة قبل الهجرة من هؤلاء العبيد الذين وجدوا في الإسلام طريقاً للخلاص من عبوديتهم وهروباً من الاسترقاق (4) . ومن هنا، قالت قريش عن الرسول «إنه مغامر طموح يهدف إلى ضرب قريش في مقتل: في مصالحها التجارية» (5) وانطلقت بالمقابل، في الاتجاه المضاد، آيات قرآنية تدعو إلى تحرير الرقاب وفكّها من أسر العبودية في مناسبات مختلفة. ومن هذه الآيات:

{فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة، وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة} (6)
{ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله} (7)
{من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة } (8)
{ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا} (9)
{وما أدراك ما العقبة. فكُّ رقبة } (10).

ولنلاحظ أن كافة هذه السور مدنية ما عدا سورة «البلد» المكيّة، مما يعني أن الإسلام قد سكت عن الاسترقاق وعن الدعوة إلى تحرير العبيد طيلة أكثر من ثلاثة عشر عاماً وإلى ما بعد الهجرة إلى المدينة، علماً بأن مكة كانت تعجُّ بالعبيد. وكان العبيد إحدى السلع التجارية المهمة والرائجة، حتى أن هنداً بنت عبد المطلب أعتقت في يوم واحد أربعين عبداً من عبيدها، كما أعتق سعيد بن العاص مائة عبد من عبيده (11) ، وأعتقت السيدة عائشة زوج الرسول تسعة وتسعين عبداً، وأعتق عبد الرحمن بن عوف ألفاً من العبيد (12) .

ومن هنا، نرى أن مسألة العبيد هذه ودعوة الإسلام إلى تحرير رقابهم، كانتا من الأسباب الاقتصادية لمقاومة قريش للإسلام، وخصوصاً لو علمنا أن قريشاً كانت قد استثمرت في هؤلاء العبيد أموالاً طائلة، تتضمن مبالغ شرائهم وتغذيتهم وكسائهم لكي يقوموا بما هم مكلَّفون به من أعمال شاقة، وأن هؤلاء العبيد كانوا يشكِّلون موجودات مهمة وقيّمة (Valuable Assets) بالنسبة لتجارة قريش وأثريائها، ولكن الإسلام كان يريد ضرب قريش في مصالحها جميعها.

إلاّ أن الإسلام بعد الفتح، وقع في التناقض في مسألة الرقيق والاسترقاق. فالإسلام من جهة، كان يدعو إلى عتقهم وتحرير رقابهم من ربقة قريش قبل الفتوحات من دون مقابل مادي ملموس، ومن جهة أخرى كان يزيد في عدد الرقيق زيادة كبيرة في عهد الرسول، وكذلك بعد الفتوحات الإسلامية في الشام والعراق ومصر ونواحٍ أخرى.

«فقد اتُّبِـعَ نظامُ الاسترقاق في عهد الرسول. فكان من أُسر في الغزوات يجوز استرقاقه، كالذي كان في غزوة بني المُصطَلق حيث إن الرسول أصاب منهم سبياً كثيراً قسّمه بين المسلمين»(13) . ويقول بعض المؤرخين كعباس العقاد إن الإسلام لم يعرف غير «رقّ السبي» (14)، في حين يؤكد خليل عبد الكريم أن الإسلام قد عرف إلى جانب «رقّ السبي»، «رق الاستدانة»، أو «رقّ الوفاء بالدين»، وأن الرسول قد قضى باسترقاق شخص يُسمّى «سُرَّق» عجز عن الوفاء بدينه لدائنه (15). كما عرفت الشريعة الإسلامية نوعاً ثالثاً من الرقّ وهو «رقّ البيع والشراء» (16) .

المرجع
1 - . - لنلاحظ أن الإسلام لم يُحرِّم الرق بقدر ما دعا إلى إطلاق حريته بالحُسنى، وعن طيب خاطر، لأنه ربما كان يعلم المغزى الاقتصادي من تجارة العبيد وكيف أن تحريمها بقسوة يمكن أن يُشعل حروباً طاحنة كالحرب الأهلية في أمريكا الشمالية بين الشمال والجنوب (1861 ـ 1865) التي راح ضحيتها ملايين الناس.

2 . وبرغم كل ذلك، فإن الرق ظل منتشراً، بل ازداد في صدر الإسلام وفي العهدين الأموي والعباسي بسبب الفتوحات الواسعة والأسرى الكثيرين، واستمر في عهود ما بعد ذلك، وبخاصة في العهدين المملوكي والعثماني. وما زال موجوداً حتى الآن في أنحاء متفرقة من الجزيرة العربية. ولم يُلغَ الرق رسمياً في الجزيرة العربية إلاَّ في العام 1965 بقرار من الملك فيصل بن عبد العزيز. وبرغم هذا ظل العبيد يعملون عند أسيادهم طواعية.
كما تزوج أمراء الجزيرة العربية في العصر الحديث من الرقيق وخلّفوا منهن أمراء وحكاماً هم في مناصب رسمية عالية الآن. وقد لعب الرق في الحضارة العربية والتاريخ العربي دوراً مهماً في الحياة الفنية والسياسية والاجتماعية إضافة إلى الحياة الاقتصادية، وخاصةً عندما نفذ الرقيق من الرجال والنساء إلى قصور الخلفاء والسلاطين وأصبحوا من ذوي الحل والعقد والسياسة والرياسة، كما أصبحوا الوصفاء والأمناء. وفي عهد المماليك (1260 ـ 1516) كان معظم السلاطين من الرقيق. كما أصبحت تجارة الرقيق علماً من العلوم العربية والإسلامية ووضع فيها كبار الفقهاء والمؤرخين رسائل وأبحاثاً منها: رسالة ابن بطلان شراء الرقيق وتقليب العبيد، ورسالة محمد الغزالي هداية المريد في تقليب العبيد، ورسالة أبي عثمان الجاحظ المفاخرة بين الجواري والغلمان، وموسوعة الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، وغيرها.
انظر: عبد السلام الترمانيني، الرق... ماضيه وحاضره .

3 - . كان الزنوج على ما يذكر المؤرخ المسعودي في مروج الذهب يتميزون بضخامة أعضائهم التناسلية، وقدرتهم الكبيرة على ممارسة الجنس. ومن هنا كانوا مرغوبين من قبل النساء. وكان أسيادهم يمنعونهم من الزواج أو معاشرة النساء خوفاً من استنفاد جزء من طاقتهم الجسدية.
انظر: أحمد عُلبي، ثورة العبيد في الإسلام، ص 37.

4. في الحديث عن علي بن أبي طالب قال «خرج عُبدان إلى الرسول يوم الحديبية قبل الصلح، فكتب إليهم مواليهم يقولون يا محمد واللَّه ما خرجوا إليك رغبة في دينك وإنما هربوا من الرق. فقال أناسٌ ردهم إليهم، فغضب الرسول وأبى أن يردهم».
انظر: أحمد أمين، مصدر سابق، ص 105.
5. سيّد القمني، الحزب الهاشمي وتأسيس الدولة الإسلامية، ص 83.
6. سورة النساء، الآية 93.
7. سورة النساء، الآية 93.
8. سورة المائدة، الآية 90.
54. سورة المجادلة، الآية 4.
55. سورة البلد، الآية 14.
56. أحمد الشريف، مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول، ص 228.
57. نوره آل الشيخ، الحياة الاجتماعية والاقتصادية في المدينة المنورة في صدر الإسلام، ص 62، نقلاً عن الكتاني، التراتيب الإدارية، ج1، ص 29.
والسؤال هو: ماذا كانت تفعل هذه الكثرة من العبيد لدى السيدة عائشة أو لدى عبد الرحمن بن عوف، أو غيرهما؟
ولنا أن نلاحظ أن هذه الأعداد من العبيد المعتقين، وهذا التسابق نحو العتق قد تحقق بعد انتشار الإسلام وبدء الفتوحات وتعطل التجارة حيث لم يعد للعبيد لزوم أو حاجة. وقد تمّ العتق بطريقتين: الأولى العتق وهو تطوع السادة لتحرير أرقائهم من دون مقابل. والثانية المكاتبة وهي منح الحرية للرقيق إذا طلبها أو رغب فيها، مقابل مبلغ من المال يدفعه للسيد. ولا ندري ما هي نسبة العتق هنا إلى نسبة المكاتبة. وهل تحوّل العتق عن طريق المكاتبة إلى تجارة جديدة للعبيد؟.
58. أحمد أمين، مصدر سابق، ص 105، نقلاً عن ابن هشام، السيرة النبوية .
59. عباس العقاد، حقائق الإسلام وأباطيل خصومه، ص 215.
15. عُرف «رقّ الوفاء بالدين» منذ القدم في شرائع حمورابي (1792 ـ 1750ق.م).
16. خليل عبد الكريم، الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية، ص 80.


المسكوت عنه في التاريخ الاسلامي (97)

تهديد تجارة قريش وتحريض العبيد سبب رفض قريش للاسلام

عندما هاجر الرسول إلى المدينة حاول تهديد تجارة قريش بكافة الوسائل المتاحة، من قطْعٍ للمواصلات إلى تثوير العاملين فيها من العبيد ودعوتهم إلى التمرد، وخلاف ذلك. كذلك فقد رفعت آيات القرآن التي جاءت في المدينة من قيمة العبيد المؤمنين وفضَّلتهم على الأسياد المشركين، إمعاناً في التحريض على الحرية، وتهديداً للتجارة المكيّة الداخلية والخارجية، وطعناً بالملأ الأعلى الذي كان مسيطراً على التجارة ومتسيّداً بها وبأموالها الطائلة، مما أثار غضب قريش. وقال القرآن كيداً بالملأ الأعلى وتسفيهاً بسادة قريش:

{ولَعبدٌ مؤمنٌ خير من مشرك ولو أعجبكم} (1)
ولم يكُ لهذه الآيات أثر اجتماعي أو سياسي كبير بقدر ما كان لها أثر اقتصادي سلبي في التجارة المكيّة والتجارة القرشية، وخصوصاً لو علمنا أن هؤلاء العبيد هم رؤوس أموالٍ مستثمَرة في التجارة الداخلية والتجارة الخارجية. وهم قد جُلبوا بالأموال الطائلة من أفريقيا وبلاد الشام وفارس والهند (2 ) لا لغرض سياسي ولا لغرض اجتماعي، ولكن لغرض تجاري بحت، شأنهم شأن أية سلعة أخرى، وشأنهم شأن العبيد الذين جُلبوا من أفريقيا إلى أمريكا الشمالية.

لا توجد أرقام مؤكدة تشير إلى أعداد هؤلاء ولكن حجم التجارة المكيّة والقرشية كان كبيرا (3). ولعل هذا الحجم في تجارة قريش ومكة يعطينا رقماً مُتخيَّلاً عن عدد العبيد الضخم الذين كانوا يعملون في التجارة المكيّة، وهم الذين كانوا يقومون بإعداد الطعام والسقاية والحراسة والنظافة وتولّي التحميل والتفريغ والشحن والتخزين، وخلاف ذلك من الأعمال والخدمات التي تتطلبها التجارة الداخلية والخارجية.

وهناك عامل اجتماعي آخر لم يساعد الإسلام في البدء على الانتشار في مكة قبل الفتح، وهو أن وضع مكة التجاري كان يدفعها إلى استيراد كميات كبيرة من العبيد الأرقّاء للقيام بخدمة أثرياء مكة وأغنيائها من الملأ الأعلى (4) ، وكذلك للقيام بأعمال التجارة الوضيعة من نظافة وحراسة وقيادة العير وإعداد الطعام والسقاية والتنزيل والتحميل وحفظ المخازن.. الخ،

وكان عدد كبير من هؤلاء العبيد ممن استُوردوا من بلاد الشام في ما عُرف بالرقيق الأبيض. كما كان قسم منهم من العبيد السود الأحابيش. وكان جُلُّ هؤلاء من النصارى. لذا، فإن الإسلام عندما ظهر لم يجد استجابة كبيرة من هؤلاء العبيد الذين كان معظمهم نصارى أصلاً، ولم يجدوا فرقاً كبيراً بين دعوة الإسلام إلى التوحيد وبين دعوة المسيحية إلى التوحيد. ومن هنا، لم يستطع الإسلام أن يُقنع غير نفر قليل جداً من هؤلاء طيلة ثلاثة عشر عاماً من بدء الدعوة في مكة حتى تاريخ الهجرة إلى المدينة.

1 . سورة البقرة، الآية 222.
2. عبد السلام الترمانيني، مصدر سابق، ص 56.
3. يُقاس على ذلك من خلال عدد الجمال التي كانت تضمها القافلة الواحدة والتي كانت عددها في بعض الأحيان يصل إلى 2500 جمل. وبلغت قيمة قافلة كان يقودها أبو سفيان عام 624م مبلغ خسمين ألف دينار (قدر المستشرق لامنس في العام 1917 أن قيمة هذه القافلة حوالى مليون فرنك فرنسي) وهو مبلغ ضخم نسبة إلى ذلك الزمان. وكانت هذه القافلة وتصدي المسلمين لها سبباً في نشوب معركة بدر في العام 624م.
انظر: برهان دلّو، مساهمة في إعادة كتابة التاريخ العربي الإسلامي، ص 49.
وانظر: فيكتور سحّاب، مصدر سابق، ص 256.
4. كان آل مخزوم وآل أمية من أكبر هؤلاء الأغنياء
المسكوت عنه في التاريخ الاسلامي (98)


الخمر .. احد اسباب رفض اهل مكة للاسلام
باعتباره مورد اقتصادي لقريش فجاء الاسلام ليمنعه

لم يكن للخمر وتعاطيه في حياة العرب (قبل الاسلام ) مظهر أخلاقي فقط، بل كان له أثر اقتصادي مهم، وخصوصاً أن الخمر كان من السلع الرئيسية المستورَدة من بلاد الشام، والتي تُباع في الحجاز وتُصدَّر إلى اليمن جنوباً أيضا .

وساعد انتشار المسيحية في الجزيرة العربية ـ والتي كان مركزها الرئيسي في نجران ـ على ازدهار تجارة الخمر في الجزيرة العربية، وخاصةً أنه كما ساعدت المسيحية على ازدهار تجارة الخمور، فقد ساعدت هذه التجارة أيضاً، بالمقابل، على انتشار المسيحية في الجزيرة العربية، «فقد أثّرت الأديرة المسيحية تأثيراً مهماً في تعريف التجار العرب والأعراب بالنصرانية.

وقد وجد التجار في أكثر هذه الأديرة ملاجئ يرتاحون فيها ومحلات يتزودون منها بالماء، كما وجدوا فيها أماكن للهو والشرب، والاستمتاع بشرب الخمر والنبيذ المعتّق الذي امتاز بصنعه الرهبان» (7 ).

كما ساعد على استيراد الخمور بكميات كبيرة فقر الحجاز بكروم العنب، وعدم توفرها على النحو الذي كانت عليه في بلاد الشام. إضافة لذلك، فإن التوسع في تجارة العبيد وازدياد عدد الغواني والقيان قد أديا إلى ازدهار تجارة الخمور لارتباطها بالوضع الاجتماعي الذي كانت تفرضه عوالم طبقة عشاق الغواني والجواري والقيان. كما إن الحج (8 ) قبل لاسلام وقيام الأسواق التجارية (سوق عكاظ، ومجنَّة، وذي المجاز) (9) ، والمواسم التجارية السنوية في مكة وما حولها التي كانت تستمر لمدة أربعة أشهر (ذي القعدة، والحجة، ومحرّم، ورجب)، قد زادت في استهلاك الخمور وبالتالي زادت في تجارتها.

ولا شك في أن طبيعة الحياة الاجتماعية الرتيبة في الحجاز قد ساعدت على التوسع في استهلاك الخمور. وكان الخمر من متع الحياة الرئيسية الثلاث وكانت هذه المتع هي: القمار، والخمر، والنساء. وكان العربي يحمل خمره معه أينما ذهب. وكانت الخمارات منتشرة في كل مكان، وكان أصحابها من النصارى واليهود في الغالب (10) . ومن شدة تعلّق بعض العرب بالخمر، أن حال تحريم الإسلام للخمر بين بعض العرب والإسلام، ومنهم الشاعر المشهور الأعشى الذي رفض دخول الإسلام لتحريمه الخمر.

ولعل تحريم الإسلام في ما بعد للخمر لهدف أخلاقي، قد أضر بالاقتصاد المكي، وحرم كثيراً من تجار مكة من المكاسب المادية لهذه التجارة الرائجة في ظل الثراء الكبير الذي أصاب مكة نتيجة لاتساع التجارة وزيادة الثروات، ولا سيما أن كافة الآيات التي جاءت في تحريم الخمر كانت كلها آيات مدنية، جاءت بعد هجرة الرسول إلى المدينة (11) ، في وقت كان الإسلام يبحث عن كل وسيلة يمكن أن تضرَّ بتجارة قريش (سرِّ حياتها) وتحويل الأنظار عن التجارة المكيّة إلى التجارة المدنية. وهو ما كان أهل المدينة يريدونه من الرسول ومن مَقْدَمِه إلى المدينة، خاصةً لو علمنا أن التجارة كانت في المقام الثاني بعد الزراعة في المدينة، وأن اليهود في المدينة كانوا يسيطرون على هذه التجارة، وكانوا ينافسون قريشاً في مكة (12) .

المراجع
7 - . كان العرب في الداخل يصنعون الخمر أيضاً محلياً من التمر والقمح واللبن والشعير والذرة والعسل والعنب، وكانوا يتاجرون بهذه الخمور إضافة إلى الخمور المستوردة.
8 - . كان استهلاك الخمور (ق.س) في اليمن كبيراً، نتيجة لبرودة الطقس هناك ووعورة الأرض. وكان الخمر يعينهم على البرد ويتقوون به في عملهم.
انظر: جواد علي، مصدر سابق، ج4، ص 666.
9 - . جواد علي، مصدر سابق، ج6، ص 589.
10 . نرى أن إقامة قريش للحج في كل عام (ق.س) كانت بدافع من تجديد الحياة وبالتالي من تجديد تنشيط التجارة، وخصوصاً أن «المغزى العميق من مثل هذه المناسبات بالنسبة للإنسان القديم كان تجديد العالم سنوياً».
انظر: مرسيا إلياد، مصدر سابق، ص 73.
11. كانت أهمية هذه الأسواق تأتي من أن بعضها ـ كسوق عكاظ وهي أعظم الأسواق ـ كانت أسواقاً تجارية حرة، حيث لا ضرائب معتادة (عشرة بالمائة) على المبيعات فيها ولا خفارة. وكان التاجر في مثل هذه الأسواق يشارك من حضر البيع والشراء في الربح وإن لم يكُ قد اشترى أو باع. ولزيادة المنفعة التجارية من هذه الأسواق، فإنها كانت تقام بالتتابع، وليست كلها في آن واحد، مما يدلُّ على مدى حُسن استغلال مثل هذه المواسم التجارية والدينية.
12 . انظر: جواد علي، مصدر سابق، ج4، ص 668
المسكوت عنه في التاريخ الاسلامي (99)

مكة كانت قبل الاسلام سوق حرة مثل هونغ كونغ اليوم

كانت تجارة مكة الخارجية تعتمد بالدرجة الأولى على تساوي موازين القوى السياسية بين الشمال البيزنطي (الشام) والبطلمي (مصر)، وبين الجنوب (اليمن) والشمال الشرقي الساساني (العراق) والفارسي في الخليج وإيران. وكان دور مكة بين هذه القوى دوراً سياسياً وسطياً محايداً، حيث لم تكُ تملك جيشاً يستطيع أن يشايع فئة من فئات الصراع السياسي والعسكري على الأخرى.

ومن هنا، لم تكُ مكة في سياستها الخارجية مسيحية كلها أو يهودية كلها أو مجوسية، وإنما كانت تقف على الحياد بين هذه الأديان، وبين الفئات السياسية المتصارعة كذلك
«فلقد اكتسبت الفئات التجارية العليا في قريش من تعاملها ومن خلال الاضطرابات والحروب التي كانت في الجزيرة العربية، خبرات تجارية ودبلوماسية وسياسية دفعتها لاتخاذ موقف سياسي متمثل بالحياد وإقامة علاقات ودية أو حسنة، وعدم التورط في الانضمام إلى أحد المعسكرات المتصارعة».

كذلك، فقد كانت قريش تتبع عبادة مرنة خاصة بها، الهدف منها تجاري أكثر منه دينياً، حتى لا تُغضب أحداً من جيرانها الذين ترتبط معهم بمعاهدات اقتصادية مختلفة على رأسها «الإيلاف» الذي كان «بداية لخروج قريش إلى العالم في القرن السادس» ، وحتى لا يتسبب صراع الأديان فيها بتعطيل تجارتها وقطع طرق قوافلها.

وبسبب ذلك، تحوّلت مكة إلى «مركز خدمات» و«سوق حرة»، حالها كحال هونغ كونغ الآن مثلاً. وكانت تقدم الخدمات المالية والتجارية والمصرفية وخدمات الترانزيت الراقية، كما كانت تقدم معها الخدمات الاجتماعية المختلفة، من دون أن يحدها دِين أو تحدها قوانين أخلاقية دينية صارمة، تقول بالحلال والحرام.
ومن هنا، كان انتشار العقيدة الحنيفية التوحيدية المتشددة في مكة (ق.س) قليلاً ومحدوداً وقاصراً على النخبة المثقفة فقط. ولعل محاربة قريش للإسلام ودين التوحيد في ما بعد وعند ظهوره، كان مرده إلى أن قريشاً لا تريد أن يُعكِّر صفو تجارتها واقتصادها مُعكِّر، ولا تريد أن تكون بالإسلام طرف صراع ديني مع اليهودية والمسيحية والمجوسية، فتذهب تجارتها وربما تموت جوعاً، وهي التي كانت غير مُعناةٍ بالدين أصلاً. ولـم تكن المعابد الكثيرة والأصنام المختلفة والأوثان المتعددة المنتشرة فيها، إلاّ وسيلة من وسائل تنشيط الحج والعمرة والزيارة التي كانت تعود عليها بالفائدة المالية والازدهار الاقتصادي بالدرجة الأولى .
المراجع

13 - . جاءت هذه الآيات في سورة البقرة، الآية 220، وفي سورة المائدة، آية 91، 92، وكلها مدنية.
14 . إبراهيم بيضون، مصدر سابق، ص 75.
15 . وبرغم وقوف قريش على الحياد بين القوى العالمية السياسية المتصارعة آنذاك، إلاَّ أن جواسيس البيزنطيين والساسانيين كانوا منتشرين في مكة يراقبون علاقات قريش مع كل طرف من هذين الطرفين المتخاصمين.
انظر: برهان دلّو، جزيرة العرب قبل الإسلام، ج1، ص 136.
16 . أيضاً، ج1، ص 133.
17 . اختلف المؤرخون في معنى «الإيلاف»، فمنهم من قال إن الإيلاف حلف من الأحلاف. ومنهم من قال إن الإيلاف مرهون بغرض واحد هو مرور القوافل مروراً آمناً، وهو ينتهي لدى مرورها، فلا تلتزم قريش دفاعاً مشتركاً عن شريكها في الإيلاف، ولا ينفر الشريك في الحرب بالضرورة إذا نفرت قريش إليها. وكانت أطراف الإيلاف الأربعة: البيزنطيين، والفرس، واليمن، ومملكة الحيرة. وكان إيلاف قريش «أول مشروع يُردف العمل المشترك بعقيدة دينية مشتركة تزيد الإحساس بانتماء مشترك، حتى أدرك شيوخ القبائل العربية أن أصنامهم كانت في مكة، ومصالحهم كذلك»، كما قال المستشرق مونتغمري وات. في حين يقول جواد علي إن الإيلاف لم يكُ إيلافاً مع الروم أو الفرس أو الحبشة، وإنما كان مع سادات القبائل العربية فقط وذلك لضبط الأعراب ومنعهم من التحرش بقوافلهم، ومرورها إلى الأسواق بأمن وسلام.
انظر: عرفان حمّور، أسواق العرب، ص 86، 87.
وانظر: فكيتور سحّاب، مصدر سابق، ص 208، 214، 224، 225.
وانظر: مونتغمري وات، محمد في مكة، ص 14.
وانظر: جواد علي، مصدر سابق، ج7، ص 301.
18 . إبراهيم بيضون، مصدر سابق، ص 76.
19 . كان العرب (ق.س) قد فرَّقوا بين أوقات الحج والعمرة. فلا يجوز الحج في أوقات العمرة، أو العكس. واعتبروا العمرة في أشهر الحج فجوراً كبيراً. والهدف من ذلك إطالة مدة زيارة الزائرين لمكة لتنشيط التجارة والأسواق التجارية. والإسلام أبقى على هذا الترتيب ولم يغيره. ومما يذكر أن الحج عند العرب قديم جداً، فقد كان العرب يحجون قبل ظهور سيدنا إبراهيم.
انظر: أحمد الشريف، مصدر سابق، ص 177.
20 . ظل الحج (ق.س) وبعده من المواسم التجارية المهمة لمنطقة الحجاز، وإلى ما قبل اكتشاف البترول وارتفاع أسعاره بعد العام 1973. وقد اعترف القرآن بأهمية الحج التجارية بعد الإسلام وعبّر عن هذا بقوله: {وأذِّن في الناس بالحج يأتونك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق، ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم اللَّه في أيام معلومات} (سورة الحج، الآية 28، 29). ومن الجدير بالذكر أن القرآن لم يحدد مواعيد الحج في قوله «في أيام معلومات» وظلت مواعيد الحج الإسلامي هي نفسها مواعيد الحج (ق.س)، كما ظلت طقوس الحج (ق.س) هي الطقوس نفسها (ب.س) لقول القرآن {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس} (سورة البقرة، الآية 200). والذي اختلف قليلاً (ب.س) هو طريقة التكبير أثناء أداء الطقوس، ومنع طواف العراة الذي كان معمولاً به (ق.س) لاعتقاد العرب (ق.س) أن الثياب ملوثة ونجسة، وتحمل ذنوب البشر


تجارة مكة الخارجية اعتمدت على عدم الانحياز بين الفرس والروم

كان ابتعاد مكة عن اثارة الصراعات الدينية والسياسية عامل رئيسي بنجاح تجارتها الخارجية ، وركزت على الاستفادة من الأوضاع العالمية لصالحها، والاستفادة من الصراعات السياسية والدينية التي تنشب بين القوى الصغرى والعظمى كذلك.
فقد استطاع القرشيون أن يستفيدوا استفادة كبيرة من الصراع السياسي الذي كان قائماً في ذلك الوقت بين القوتين العظميين: الروم في الشمال والفرس في الشمال الجنوبي من الجزيرة العربية.
ومن جانب آخر، كان القرشيون ينأون بأنفسهم عن الدخول في أي صراع سياسي أو ديني حفاظاً على «منظومة الإيلاف» التاريخية الاقتصادية التي كانت أشبه بمنظومة «العولمة الاقتصادية» في هذه الأيام، والتي تُوجب الحياد السياسي التام بين القوى السياسية والعسكرية المتصارعة، وإلاّ أصبحت مكة عُرضة للغزو والتهديد العسكريين، وهو ما حاولت مكة الابتعاد عنه، وإبقاءها مدينة حيادية أشبه بجنيف العاصمة السويسرية هذه الأيام، وذلك حتى يطمئن رأس المال وتأمن الأموال في خزائنها.

ولعل مقاومة مكة للإسلام كدين جديد ـ تلك المقاومة الشرسة التي أدت إلى حروب وإراقة دماء بين الرسول وصحبه من المهاجرين والأنصار وبين قريش مكة ـ دخلت ضمن هذه المعادلات السياسية والاقتصادية.

لقد حاولت قريش بشتى الطرق ـ كما ذكرنا ـ الحفظ على عدم الانحياز والابتعاد عن الدخول في تحالفات سياسية مع الأطراف المتصارعة حتى لا يخلَّ ذلك بميزان القوى المتصارعة، ويهدد بالتالي مصالح قريش التجارية، ويحيل مكة من مدينة محايدة تلعب دور الوسيط التجاري إلى مدينة منحازة لإحدى الجبهات السياسية. ولهذا، كان همُّ مكة الأكبر والملأ الأعلى فيها «تطوير التنظيمات التجارية وتنظيم الأسواق الموسمية وترتيب أوقاتها مع الأشهر الحرم حتى يسودها الأمن والهدوء الضروريان لسلامة القوافل وعمليات البيع والشراء وزيارة المقدسات». وليس البحث عن زعامات سياسية، أو الدخول في أحلاف سياسية.

وقد اقتضى تنظيم الأسواق التجارية والمواسم الدينية على النحو الذي كان عليه ذكاءً ومهارة، ومن مظاهر هذا التنظيم التجاري الدقيق أن يتوجه رئيس القافلة التجارية حال وصوله إلى مكة من الشمال أو الجنوب، إلى «دار الندوة» حيث يدلي ببيان عن نتائج رحلته بالأرقام وينتهي إلى مقدار الربح الذي حققته قافلته. وكانت الأرباح تصل إلى مائة بالمائة. "
). برهان دلّو، مساهمة في إعادة كتابة التاريخ العربي الإسلامي، ص 47

مكة والصراع الاقتصادي التجاري بغطاء ديني

ورد في سجلات التاريخ أن مكة قبل لاسلام كانت هدفاً من أهداف أعدائها المحيطين بها، وكانت مطمعاً من مطامعهم. وقد فسّر المؤرخون الإسلاميون هذه المطامع بأنها مطامع دينية كانت تريد أن تجعل من مكة نصرانية حيناً ومجوسية حيناً آخر. ومن هنا، فقد فُسّرت حملة «أصحاب الفيل» بقيادة أبرهة الحبشي (570م) بأنها كانت حملة دينية، الهدف منها الانتقام من تدنيس رجل من كنانة للكنيسة اليمنية الضخمة «القليس»، في حين يُفسّر المؤرخون المتقدمون أن سبب حملة «أصحاب الفيل» كان السيطرة على طريق القوافل الرئيسية بين اليمن والشام، التي تُعتبر مكة محطة تجارية رئيسية، في ما كان يُطلق عليه «طريق البخور»، وأن أبرهة كان يهدف من حملته إلى «التخلّص من تحكّم مكة في التجارة الدولية بين اليمن والشام بنقلها إلى أيدي اليمنيين. وتحقيق هذا الهدف كان يتطلب القضاء على مكة كمركز ديني. ومن هنا، استهدفت حملة أبرهة هدم الكعبة وتحويل حج العرب إلى [القليس] وهو معبد أقامه أبرهة في اليمن» (محمد الجابري، العقل السياسي العربي، ص 105.).

لقد كان في ذاكرة العرب قبل لاسلام دائماً مشهد النزاعات الدينية التي يمكن لها أن تكون غطاءً لاحتلال مكة والسيطرة على تجارتها، بينما اعتبروا الإسلام من المظاهر التي يمكن أن تُشكِّل مستقبلاً حجة دينية ونازعاً دينياً يدفع إحدى القوتين العظميين ـ الفرس والساسانيين من جانب، كمجوس، والبيزنطيين والأحباش كمسيحيين من جانب آخر ـ للهجوم على مكة بحجة دينية، في حين أن الغاية والهدف الحقيقيين هما السيطرة التجارية والمالية على هذا المرفق التجاري الحيوي المهم، ولا سيما أن المنطقة كلها كانت في حروب، مظهرها وسببها الظاهريان دينيان ولكن أسبابها الحقيقية تجارية وسياسية.

ولنا من الساسانيين وهم مجوس مثال على ذلك، وهم الذين تبنّوا النصرانية وأيدوا اليهودية نكاية بالروم والأحباش، وانتهى النزاع أخيراً بانتصار الساسانيين في اليمن وطرد الأحباش المسيحيين منها من أجل السيطرة على التجارة اليمنية والأسواق اليمنية المهمة التي كانت تُنتج موادَّ استراتيجية بالغة الأهمية وعلى رأسها النسيج الفاخر، وخاصة «البُرد»، إضافة إلى الذهب والفضة (جواد علي، ج4، ص224) الأحجار الكريمة ومواد التجميل والطيب والأصباغ، والتوابل كالقرنفل والزعفران والقرفة والفلفل والغار والصمغ والبخور، والمواد الطبية كالمُرّ واللُّبان والكُندُر والعقيق، والأسلحة كالسيوف والحراب والتروس والرماح، وخلاف ذلك

مكة تدافع عن اقتصادها برفض الاسلام

وكان دائماً في ذاكرة العرب ومخيالهم ، تاريخ النزاعات العسكرية والسياسية في المنطقة التي هدت مستقبل التجارة تهديداً كبيراً.
ففي زمن الدولة الحميرية (300 ـ 525م) تعرض اليمن لانهيار اقتصادي نتيجة لغزو الأحباش واحتلال أجزاء منه في العام 340م، مما حوّل طرق التجارة من غرب الجزيرة العربية إلى «طريق الحرير» في آسيا الوسطى عبر إيران إلى الأناضول فأوروبا.

وهذه الحادثة وحوادث تاريخية أخرى كانت لا تزال حية في الذاكرة العربية، والقرشية على وجه الخصوص، عندما ظهر الإسلام كطريق للتحول الاجتماعي والسياسي، ومن ثم الاقتصادي.

«وكان طبيعياً في ظل هذا الوعي الذي كان لقريش بأهمية مكة وارتباط الدين بالاقتصاد فيها، أن يتوجَّسوا دائماً من كل دعوة جديدة ويروا فيها يداً خارجية تريد النيل من مصالحهم الاقتصادية خصوصاً.
والمنافسون لهم كانوا كثيرين: الفرس والروم وملوك الحيرة واليمن والحبشة. وهذا ما يُفسر ما صدر عن قريش من رد فعل سريع إزاء هجرة بعض المسلمين إلى الحبشة. فقد أرسلت قريش وفداً إلى النجاشي يتكون من شخصيتين تجاريتين معروفتين هما: عبد اللَّه بن أبي الربيعة، وعمرو بن العاص».
كما تجدر الإشارة إلى أن الذين هاجروا إلى الحبشة من المسلمين كانوا في غالبيتهم من طبقة التجار، مما أوحى لقريش أن الرسول يخطط لإقامة مركز تجاري منافس لمكة في الحبشة.

ومن هنا، نتج خوفهم ومحاولتهم تطويق الأمر، «بل قد تكون إحدى نتائج الود بين المسلمين الأوائل والأحباش أن الرسول فكّر كذلك في قطع طرق التجارة الحبشية مع مكة قبل فتحها».
ولقد حاولت قريش بشتى الوسائل، تأليب النجاشي على المسلمين المهاجرين إلى بلاده. ولكن النجاشي كان مغتبطاً بهذه الهجرة، ولم يسمع من قريش تأليبه على هؤلاء المهاجرين. وكان يضمر في سره إمكانية أن يقوم في مكة في مستقبل الأيام، وعلى أيدي مثل هؤلاء المهاجرين المسلمين، نظام حكم سياسي جديد يعوّضه ما فقدت الحبشة في اليمن من تجارة وسطوة سياسية، ولا سيما أن لا نزاع دينياً سيكون بين هؤلاء المسلمين الموحدين المعترفين بالمسيحية كدين سماوي صاحب كتاب، وبين سكان بلاده.

بل إن بعض المستشرقين، كمونتغمري وات، يرون أن الرسول ربما طلب من الحبشة عوناً عسكرياً لمحاربة قريش. إلاّ أن الرسول على ما يبدو لم يكُ يريد أن يظهر بمظهر العسكري الغازي لأهله وعشيرته وبلده، ولا يريد أن يظهر بمظهر المدعوم من قبل جهة أجنبية، سبق وحاولت احتلال مكة بقيادة أبرهة الحبشي في عام الفيل. ولم يكُ هدفه النصر العسكري المجرّد على قريش بقدر ما كان هدفه طعن قريش في خاصرتها الموجعة وهي التجارة ، (والدليل أن أبرهة كتب مرة إلى النجاشي يقول: إني بنيت لك كنيسة «القليس»، ولست بمنته حتى أصرف حج العرب إليها ) حتى تسمع قريش من الرسول ما يقوله. وهذا هو الكي الموجع والشافي لقريش في الوقت نفسه.
--------------------------------
محمد الجابري، ، ص 106.
فيكتور سحّاب، ، ص 414.
محمود الحوت، في طريق الميثولوجيا عند العرب، ص 134، نقلاً عن ياقوت، معجم البلدان، ص 172

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يرجى التكرم بالالتزام بقواعد حرية الراي وحقوق النشر

ابحث في الارشيف

الدانة نيوز الصفحة الرئيسية

الدانة نيوز الصفحة الرئيسية
الدانة نيوز هي اداة اعلامية تشكل مدخلا لمعرفة ما يدور في العالم على جميع الاصعدة والمجالات

احدث الاخبار .. الشبكة الاعلامية

إضافة سلايدر الاخبار بالصور الجانبية

العالم الجديد

صفمة المقالات

الاكثر قراءة

تابعونا النشرة الاخبارية على الفيسبوك

-----تابعونا النشرة الاخبارية على الفيسبوك

حكيم الاعلام الجديد

https://www.flickr.com/photos/125909665@N04/ 
حكيم الاعلام الجديد

مشاركة مميزة

ما هي الروح ... لا وجود للروح

ما هي الروح ... لا وجود للروح ما هي الروح من انتم لتفسروا ما هي الروح ؟؟ علق بعض السادة المحترمين على موضوع خرافة الروح وتاكيد...

تابعنا على الفيسبوك

------------- - - يسعدنا اعجابكم بصفحتنا يشرفنا متابعتكم لنا

أتصل بنا

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

شرفونا بزيارتكم لصفحتنا على الانستغرام

شرفونا بزيارتكم لصفحتنا على الانستغرام
الانستغرام

نيو سيرفيس سنتر متخصصون في الاعلام والعلاقات العامة

نيو سيرفيس سنتر متخصصون في الاعلام والعلاقات العامة
مؤسستنا الرائدة في عالم الخدمات الاعلامية والعلاقات العامة ةالتمويل ودراسات الجدوى ةتقييم المشاريع

اعلن معنا

سلايدر الصور الرئيسي

اعلان سيارات

اعلن معنا

اعلن معنا
معنا تصل لجمهورك

خدمات نيو سيرقيس

خدمات رائدة تقدمها مؤسسة نيو سيرفيس سنتر ---
مؤسسة نيوسيرفيس سنتر ترحب بكم 

خدماتنا ** خدماتنا ** خدماتنا 

اولا : تمويل المشاريع الكبرى في جميع الدول العربية والعالم 

ثانيا : تسويق وترويج واشهار شركاتكم ومؤسساتكم واعمالكم 

ثالثا : تقديم خدمة العلاقات العامة والاعلام للمؤسسات والافراد

رابعا : تقديم خدمة دراسات الجدوى من خلال التعاون مع مؤسسات صديقة

خامسا : تنظيم الحملات الاعلانية 

سادسا: توفير الخبرات من الموظفين في مختلف المجالات 

نرحب بكم اجمل ترحيب 
الاتصال واتس اب / ماسنجر / فايبر : هاتف 94003878 - 965
 
او الاتصال على البريد الالكتروني 
danaegenvy9090@gmail.com
 
اضغط هنا لمزيد من المعلومات 

اهلا ومرحبا بكم

وكالة انباء الدانة – مؤسسة عربية مستقلة – متخصصة في الاعلام والعلاقات العامة

ابحث في الموقع عن المواضيع المنشورة




لقاء مع المفكر التوسي يوسف الصديق

* * * المفكر التوسي يوسف الصديق: المصحف عمل إنساني يختلف عن القرآن ويجب الإطاحة بالأزهر والزيتونة