كان ابن المقفع كثيرًا ما يقف إذا كتب، فقيل له في ذلك فقال: إن الكلام يزدحم في صدري فأقف لتخيره.—الراغب الأصفهاني
نشأته وثقافته وإسلامه
نشأ ابن المقفع في أواخر أيام الدولة الأموية، وكان فارسي الأصل، ولد عام 106هـ بقرية من قرى فارس يقال لها «جور» وموضعها فيروز آباد الحالية، واسمه بالفارسية «روزبة» ومعناه المبارك، كان يكنى قبل إسلامه بأبي عمرو، فلما أسلم تسمى بعبد الله، وتكنى بأبي محمد. أما عن سبب وصف أبيه بالمقفع فيقال إن الحجاج بن يوسف كان ولاه خَراج فارس، ثم ضربه بالبصرة في مال احتجنه ضربًا مبرحًا حتى تقفعت يده، فأطلق عليه منذ ذلك الحين اسم المقفع، وعرف ابنه بابن المقفع.
عاش ابن المقفع في كنف والده بفارس زمنًا، فاشتغل بالثقافة الفارسية وكان ينتحل نحلة المجوس، ثم رحل إلى البصرة وكانت مائجة يومئذ بالعلم والعلماء، زاخرة بالأدب والمتأدبين، والشعراء والمتكملين، وكان فيها سوق المربد، منتدى لهؤلاء جميعًا. عاش الشاب في المدينة مولى لآل الأهتم وهم يومئذ أهل الفصاحة والبيان، فتهيأ له الاتصال بأمراء من العرب يحسنون العربية سيلقة وطبعًا، وأخذ العربية كذلك من الأعراب الوافدين من البادية. ولم يمض زمن يسير حتى تم تكوين الرجل، ونضج عقله بأسرع مما تنضج به العقول عادة. ثم إن الفرس ومن على شاكلتهم من الموالي كانوا أصحاب العلم في البلاد العربية، وأرباب القلم فيها، فاستعانت بهم الدولة الأموية، وأفادت من أقلامهم واستغلت معارفهم بالعلوم التي لم يكن يعرفها العرب آنذاك.[1]
فبينما كان عبد الحميد بن يحيى يكتب بالشام لمروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، كان ابن المقفع يكتب لداود بن هبيرة في العراق. ولما قامت الدولة العباسية وقَتَلَ الخليفةُ المنصور فيمن قتل من الأمويين داود بن هبيرة نجا ابن المقفع من سيفه، ثم خدم أعمامَ السفاح الثلاثة سليمان وعيسى وإسماعيل أبناء علي بن عبد الله بن عباس، وترجم لأبي جعفر المنصور كتبًا في المنطق عن الفارسية. وكتب لعلي بن عيسى أيام ولايته على كرمان، وأسلم على يديه.
أسلوبه وخصائصه
ابن المقفع إمام الطبقة الأولى من كتاب العصر العباسي، وصاحب الطريقة التي آخت بين التفكير الفارسي والبلاغة العربية، وهو كاتب حكيم تغلب عليه الحكمة في كل شيء، وكل ما وصل إلينا من آثاره لا يخرج عن الموضوعات الحكمية، يصوغها في قالب محكم من اللفظ والمعنى والصياغة، حتى لقد قيل: «ما رُزِقَت العربية كاتبًا حبب الحكمة إلى النفوس كابن المقفع، فإنه يعمد إلى الحكمة العالية فلا يزال يروضها بعذوبة لفظه ويستنزلها بسلاسة تراكيبه حتى يبرزها للناس سهلة المأخذ بادية الصفحة، فهو من هذه الجهة أكتب الحكماء وأحكم الكتاب»[2]. وعن هذه السمة في كتابة ابن المقفع يقول الراغب الأصفهاني: «كان ابن المقفع كثيرًا ما يقف إذا كتب، فقيل له في ذلك فقال: إن الكلام يزدحم في صدري فأقف لتخيره».[3]
وقد كانت أظهر سمات أسلوب ابن المقفع السهولة والوضوح، والجري مع الطبع وعدم التعقيد والإغراب، حتى لقد عرّف البلاغة تعريفًا بارعًا فقال: «البلاغة هي التي إذا سمعها الجاهل ظن أنه يحسن مثلها»، وقال لبعض الكتاب: «إياك والتتبع لحُوشي الكلام طمعًا في نيل البلاغة، فإن ذلك هو العي الأكبر». وكما كان ابن المقفع يتجنب التقعر، فقد كان يكره الابتذال والإسفاف، فقال يوصي كاتبًا: «عليك بما سهل من الألفاظ، مع التجنب لألفاظ السفلة».[4]
كتبه وآثاره
عبد الله بن المقفع له عدد كبير من الكتب المؤلفة والمترجمة، بعضها ما زال بين أيدينا، وبعضها مفقود لم يتم الوصول إليه، ومنها ما لا وجود له إلا عناوين في كتب التراجم. وأشهر هذه الكتب:
كتاب كليلة ودمنة:
وهو أشهر كتب ابن المقفع، وضعه باللغة السنسكريتية فيلسوف هندي يدعى بيدبا للمك دبشليم الذي حكم الهند بعد فتح الإسكندر لها، وجعل فيه الفيلسوف بيدبا حِكَمَه ومواعظه ونصائحة جارية على ألسنة الحيوان والطير. ثم كان أن نُقِلَ الكتاب من السنسكريتية إلى لغات عدة، ومنها اللغة الفهلوية التي نقل ابن المقفع الكتاب عنها إلى العربية، ثم فقد الأصل الهندي والفهلوي ولم يبق من التراجم الأولى غير الترجمة العربية لابن المقفع وعنه نقلته الأمم إلى لغاتها. وقد كان لهذا الكتاب أثر كبير في الثقافة الإنسانية، فعكف عليه الدراسون بالبحث والتحقيق، من العرب والغربيين، وللمستشرقين به عناية كبيرة، حتى إن الأستاذة بياتريس جروندلر، أستاذة الدراسات العربية بجامعة برلين الحرة، قد حصلت بآخره على جائزتين عظيمتين عن جهودها البحثية والتحقيقية حول هذا الكتاب؛ أولاهما هي كبرى جوائز البحث العلمي في ألمانيا Leibniz Prize لعام 2017 وقيمتها 2.5 مليون يورو؛ والأخرى جائزة مجلس البحوث الأوربية European Research Council وقيمتها 2.435 مليون يورو. وهذه الجوائز لا تخلو من دلالة على أهمية الكتاب وطرافته وجدة البحث فيه ودوره في تاريخ الثقافة العربية والإنسانية.
كتاب الأدب الصغير:
وهو كتاب في الأدب والحكم والمواعظ، صيغ بأسلوب رائق، وليس كل ما فيه من الحكم من نتاج ابن المقفع لأنه يقول فيه: «وقد وضعت في هذا الكتاب من كلام الناس المحفوظ حروفًا فيها عون على عمارة القلوب وصقالها وتجلية أبصارها، وإحياء للفكير وإقامة للتدبير ودليل على محامد الأمور ومكارم الأخلاق.[5] وقد كان لابن المقفع الفضل في حسن صياغة ذلك كله وتقريبه للقلوب. والكتاب يتكون من (مقدمة) فيها حديث عن حاجة العقل إلى الأدب، وتأثير هذا الأدب في إنماء العقول، و(موضوع) هو سوق الحكم والأمثال التي ألمح إليها في هذه المقدمة.
كتاب الأدب الكبير:
وهو كتاب في الأخلاق والنصائح والآداب والحكم، وقد قسمه إلى قسمين: كتب في أحدهما عن علاقة الراعي بالرعية، وكتب الآخر في علاقة الرعية بعضها ببعض. وقد كان في هذا الكتاب صاحب نزعة مثالية مفرطة، فهو حين يكتب عن السلطان يذكر ما يجب أن يكون عليه السلطان الكامل في حكمه وسياسته وأخلاقه وحسن سيرته؛ كأن يقول مثلا: «ليس للملك أن يغضب، لأن القدرة من وراء حاجته، وليس له أن يكذب، لأنه لا يقدر أحد على استكراهه على غير ما يريد، وليس له أن يبخل لأنه أقل الناس عذرًا في تخوف الفقر. وليس له أن يكون حقودًا لأن خطره قد عَظُمَ عن مجاراة كل الناس»[6]، فكأنه إنما يصف بذلك المثل الأعلى.
وإلى جانب هذه الكتب الشهيرة نسب إلى ابن المقفع كذلك «كتاب الدرة اليتيمة»، وقد زعموا أنه عارض بها القرآن، و«رسالة الصحابة» التي وجهها إلى الخليفة المنصور، و«كتاب خداي نامه» وهو كتاب في سير ملوك العجم، نقله ابن المقفع عن الفارسية، وهو مفقود، ونقل عن الفارسية كذلك «كتاب التاج» في سيرة أنوشروان، وهو مفقود، و«كتاب مزدك» وهو كتاب أدب وتسلية يضارع كتاب كليلة ودمنة لكنه مفقود أيضًا، إلى غير ذلك من الكتب.
مصرع ابن المقفع
«الكياسة ترك السياسة»، عبارة يجدر بالمرء أن يؤمن بها ويتخذها منهجًا حين يقف على ما جرى لابن المقفع!، فقد أسهب الرجل في كتابه الأدب الكبير ينصح الناس ويعلمهم كيف يتعاملون مع الملوك، فيقول «إذا أصبت عند الوالي لطف منزلة لغناء يجده عندك أو هوى يكون له فيك فلا تطمحن كل الطماح.. ولا تكونن صحبتك للملوك إلا بعد رياضة منك لنفسك على طاعتهم في المكروه عندك، وموافقتهم فيما خالفك، وتقدير الأمور على ميلهم دون ميلك […] فإنك لا تأمن عقوبتهم إن كتمتهم، ولا تأمن غضبهم إن صدقتهم ولا تأمن سلوتهم إن حدثتهم. إنهم إن سخطوا عليك أهلكوك، وإن رضوا عنك تكلفت من رضاهم ما لا تطيق [7]. بل إنه بالغ كثيرًا في القول بطاعة السلطان ووجوب مداراته، بقوله: «جانب المسخوط عليه والظنيين عند السلطان، ولا يجمعنك وإياه مجلس ولا منزل، ولا تظهرن له عذرًا، ولا تشن عليه عند أحد»[8]. إذا علمت ذلك كله من كلام ابن المقفع، وعلمت كذلك أنه في آخر حكايات كتاب كليلة ودمنة في باب «الحمامة والثعلب ومالك الحزين» قد نعى على من يرى الرأي لغيره ولا يراه لنفسه؛ أي ينصح غيره ويعلمه الحيلة ويدبر له أمره ولا يحسن تدبير أمر نفسه فيوردها المهالك، إذا علمت ذلك كله أدركت أن ابن المقفع كان من الحصافة في التعامل مع الملوك والولاة بمكان. لكن الأمر كان على غير ذلك، فقد خالف ابن المقفع في نفسه هذه النصائح كلها، حتى أورد نفسه الموارد.
فيروى في قصة مصرعه أنه كان أوغر صدر الخليفة المنصور، وذلك حين خرج عليه عمه عبد الله بن علي والي الشام فحاربه المنصور بجيش على رأسه أبو مسلم الخراساني، فهزمه أبو مسلم، وفر العم فلاذ بأخويه الشقيقين سليمان وعيسى، وكانا بالبصرة فآوياه، وطلبا له الأمان من الخليفة فأمَّنَه، وعُهد إلى ابن المقفع كاتب عيسى بن علي بكتابة الأمان لعبد الله، ويقال إن ابن المقفع كتب الأمان وبالغ في الاحتراس من كل تأويل يقع عليه فيه، وأسرف في توكيد الأمان فلم يتهيأ للمنصور إيقاع حيلة فيه لفرط احتياط ابن المقفع، ومن ذلك قوله: «ومتى غدر أمير المؤمنين بعمه عبد الله فنساؤه طوالق، ودوابه حبس وعبيده أحرار، والمسلمون في حل من بيعته»[9]. وكتب في الأمان كلامًا كثيرًا لا يتفق وعزة الملوك وهيبتهم وكرامتهم، فلما قرأه المنصور امتلأت نفسه غيظًا، وسأل عمن كتبه فقيل له: ابن المقفع كاتب عيسى بن علي، فقال أبو جعفر: «فما أحد يكفينيه؟!».
وكان سفيان بن معاوية بن يزيد يضطغن على ابن المقفع أشياء كثيرة، منها أن ابن المقفع كان يسخر منه ويتندر عليه لأن أنفه كان كبيرًا، فكان إذا دخل عليه قال: السلام عليكما!، وكان يسأله عن الشيء بعد الشيء، فإذا أجاب قال له (أخطأت!) ويضحك منه، فلما كثر ذلك على سفيان غضب واشتد غيظه منه، وكان ابن المقفع قال له يوميًا في معرض السب والسخرية: «يا ابن المُغْتَلِمَة والله ما اكتفت أمك برجال أهل العراق حتى تعدتْهم إلى أهل الشام». وكثرت داوعي الحقد والحنق على ابن المقفع فأضمر سفيان في نفسه أن يعمل على قتله إذا أمكنته من ذلك فرصة.[10]
وسرعان ما حانت تلك الفرصة بحادثة الأمان هذه؛ فما كاد المنصور يقول: «فما أحد يكفينيه» وكان سفيان حاضرًا، حتى أجابه إلى ذلك وظفر منه بإذن في قتل ابن المقفع. فلما قبض عليه سفيان بالحيلة قال: قد وقعتَ والله!، فقال ابن المقفع: أنشدك الله أيها الأمير!، فقال سفيان: أمي مغتلمة كما ذكرتَ إن لم أقتلك قتلة لم يُقتل بها أحد قط. وأمر بِتَنُّور فأُسْجِر، ثم أمر بابن المقفع فقطع منه عضو ثم ألقي في التنور وابن المقفع ينظر حتى أتى على جميع جسده، ثم أطبق عليه التنور!، وكان ذلك في عام حوالي عام 142هـ.
تكاد تجمع الروايات التاريخية على أن ابن المقفع مات مقتولاً على يد سفيان بن معاوية على هذا النحو، لكن بعض المصادر روت أنه مات منتحرًا، وذلك أنه حين ظفر به سفيان وأراد حمله إلى المنصور قَتَلَ ابن المقفع نفسَه، قال بعضهم إنه شرب سمًّا، وقال آخرون إنه خنق نفسه.[11] لكن رواية الحرق هي الأشهر على كل حال.
وذهب بعض المؤرخين وكُتَّاب التراجم إلى أن ابن المقفع كان متهمًا بالزندقة، وكان ذلك من مسوغات قتله. ذكر ذلك عبد القادر البغداي في خزانة الأدب، وابن خلكان في وفيات الأعيان، وقال الرواة إنه كان منافقًا في إسلامه، لم يسلم إلا ابتغاء عرض الدنيا، وأنه كان يضمر المجوسية التي آمن بها زمنًا قبل اعتناقه الإسلام، وذكروا في ذلك شبهًا لا دليل عليها ولا يقام لها وزن في تكفير المؤمن وإخراجه من الإسلام وقتله.
ومهما يكن من أمر، فقد كان ابن المقفع فارسًا من فرسان البيان والنثر العربي، وإمامًا من أئمة الطبقة الأولى من الكتاب، أثرى الثقافة العربية بعدد من الكتب الطريفة، وكان له أسلوب عُرف به، وبلغ به من الشهرة مبلغًا عظيمًا، حتى طبقت شهرته الآفاق، وصار مضرب المثل في فن الكتاب على مر الأزمان.
نشأ ابن المقفع في أواخر أيام الدولة الأموية، وكان فارسي الأصل، ولد عام 106هـ بقرية من قرى فارس يقال لها «جور» وموضعها فيروز آباد الحالية، واسمه بالفارسية «روزبة» ومعناه المبارك، كان يكنى قبل إسلامه بأبي عمرو، فلما أسلم تسمى بعبد الله، وتكنى بأبي محمد. أما عن سبب وصف أبيه بالمقفع فيقال إن الحجاج بن يوسف كان ولاه خَراج فارس، ثم ضربه بالبصرة في مال احتجنه ضربًا مبرحًا حتى تقفعت يده، فأطلق عليه منذ ذلك الحين اسم المقفع، وعرف ابنه بابن المقفع.
عاش ابن المقفع في كنف والده بفارس زمنًا، فاشتغل بالثقافة الفارسية وكان ينتحل نحلة المجوس، ثم رحل إلى البصرة وكانت مائجة يومئذ بالعلم والعلماء، زاخرة بالأدب والمتأدبين، والشعراء والمتكملين، وكان فيها سوق المربد، منتدى لهؤلاء جميعًا. عاش الشاب في المدينة مولى لآل الأهتم وهم يومئذ أهل الفصاحة والبيان، فتهيأ له الاتصال بأمراء من العرب يحسنون العربية سيلقة وطبعًا، وأخذ العربية كذلك من الأعراب الوافدين من البادية. ولم يمض زمن يسير حتى تم تكوين الرجل، ونضج عقله بأسرع مما تنضج به العقول عادة. ثم إن الفرس ومن على شاكلتهم من الموالي كانوا أصحاب العلم في البلاد العربية، وأرباب القلم فيها، فاستعانت بهم الدولة الأموية، وأفادت من أقلامهم واستغلت معارفهم بالعلوم التي لم يكن يعرفها العرب آنذاك.[1]
فبينما كان عبد الحميد بن يحيى يكتب بالشام لمروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، كان ابن المقفع يكتب لداود بن هبيرة في العراق. ولما قامت الدولة العباسية وقَتَلَ الخليفةُ المنصور فيمن قتل من الأمويين داود بن هبيرة نجا ابن المقفع من سيفه، ثم خدم أعمامَ السفاح الثلاثة سليمان وعيسى وإسماعيل أبناء علي بن عبد الله بن عباس، وترجم لأبي جعفر المنصور كتبًا في المنطق عن الفارسية. وكتب لعلي بن عيسى أيام ولايته على كرمان، وأسلم على يديه.
أسلوبه وخصائصه
ابن المقفع إمام الطبقة الأولى من كتاب العصر العباسي، وصاحب الطريقة التي آخت بين التفكير الفارسي والبلاغة العربية، وهو كاتب حكيم تغلب عليه الحكمة في كل شيء، وكل ما وصل إلينا من آثاره لا يخرج عن الموضوعات الحكمية، يصوغها في قالب محكم من اللفظ والمعنى والصياغة، حتى لقد قيل: «ما رُزِقَت العربية كاتبًا حبب الحكمة إلى النفوس كابن المقفع، فإنه يعمد إلى الحكمة العالية فلا يزال يروضها بعذوبة لفظه ويستنزلها بسلاسة تراكيبه حتى يبرزها للناس سهلة المأخذ بادية الصفحة، فهو من هذه الجهة أكتب الحكماء وأحكم الكتاب»[2]. وعن هذه السمة في كتابة ابن المقفع يقول الراغب الأصفهاني: «كان ابن المقفع كثيرًا ما يقف إذا كتب، فقيل له في ذلك فقال: إن الكلام يزدحم في صدري فأقف لتخيره».[3]
وقد كانت أظهر سمات أسلوب ابن المقفع السهولة والوضوح، والجري مع الطبع وعدم التعقيد والإغراب، حتى لقد عرّف البلاغة تعريفًا بارعًا فقال: «البلاغة هي التي إذا سمعها الجاهل ظن أنه يحسن مثلها»، وقال لبعض الكتاب: «إياك والتتبع لحُوشي الكلام طمعًا في نيل البلاغة، فإن ذلك هو العي الأكبر». وكما كان ابن المقفع يتجنب التقعر، فقد كان يكره الابتذال والإسفاف، فقال يوصي كاتبًا: «عليك بما سهل من الألفاظ، مع التجنب لألفاظ السفلة».[4]
كتبه وآثاره
عبد الله بن المقفع له عدد كبير من الكتب المؤلفة والمترجمة، بعضها ما زال بين أيدينا، وبعضها مفقود لم يتم الوصول إليه، ومنها ما لا وجود له إلا عناوين في كتب التراجم. وأشهر هذه الكتب:
كتاب كليلة ودمنة:
وهو أشهر كتب ابن المقفع، وضعه باللغة السنسكريتية فيلسوف هندي يدعى بيدبا للمك دبشليم الذي حكم الهند بعد فتح الإسكندر لها، وجعل فيه الفيلسوف بيدبا حِكَمَه ومواعظه ونصائحة جارية على ألسنة الحيوان والطير. ثم كان أن نُقِلَ الكتاب من السنسكريتية إلى لغات عدة، ومنها اللغة الفهلوية التي نقل ابن المقفع الكتاب عنها إلى العربية، ثم فقد الأصل الهندي والفهلوي ولم يبق من التراجم الأولى غير الترجمة العربية لابن المقفع وعنه نقلته الأمم إلى لغاتها. وقد كان لهذا الكتاب أثر كبير في الثقافة الإنسانية، فعكف عليه الدراسون بالبحث والتحقيق، من العرب والغربيين، وللمستشرقين به عناية كبيرة، حتى إن الأستاذة بياتريس جروندلر، أستاذة الدراسات العربية بجامعة برلين الحرة، قد حصلت بآخره على جائزتين عظيمتين عن جهودها البحثية والتحقيقية حول هذا الكتاب؛ أولاهما هي كبرى جوائز البحث العلمي في ألمانيا Leibniz Prize لعام 2017 وقيمتها 2.5 مليون يورو؛ والأخرى جائزة مجلس البحوث الأوربية European Research Council وقيمتها 2.435 مليون يورو. وهذه الجوائز لا تخلو من دلالة على أهمية الكتاب وطرافته وجدة البحث فيه ودوره في تاريخ الثقافة العربية والإنسانية.
كتاب الأدب الصغير:
وهو كتاب في الأدب والحكم والمواعظ، صيغ بأسلوب رائق، وليس كل ما فيه من الحكم من نتاج ابن المقفع لأنه يقول فيه: «وقد وضعت في هذا الكتاب من كلام الناس المحفوظ حروفًا فيها عون على عمارة القلوب وصقالها وتجلية أبصارها، وإحياء للفكير وإقامة للتدبير ودليل على محامد الأمور ومكارم الأخلاق.[5] وقد كان لابن المقفع الفضل في حسن صياغة ذلك كله وتقريبه للقلوب. والكتاب يتكون من (مقدمة) فيها حديث عن حاجة العقل إلى الأدب، وتأثير هذا الأدب في إنماء العقول، و(موضوع) هو سوق الحكم والأمثال التي ألمح إليها في هذه المقدمة.
كتاب الأدب الكبير:
وهو كتاب في الأخلاق والنصائح والآداب والحكم، وقد قسمه إلى قسمين: كتب في أحدهما عن علاقة الراعي بالرعية، وكتب الآخر في علاقة الرعية بعضها ببعض. وقد كان في هذا الكتاب صاحب نزعة مثالية مفرطة، فهو حين يكتب عن السلطان يذكر ما يجب أن يكون عليه السلطان الكامل في حكمه وسياسته وأخلاقه وحسن سيرته؛ كأن يقول مثلا: «ليس للملك أن يغضب، لأن القدرة من وراء حاجته، وليس له أن يكذب، لأنه لا يقدر أحد على استكراهه على غير ما يريد، وليس له أن يبخل لأنه أقل الناس عذرًا في تخوف الفقر. وليس له أن يكون حقودًا لأن خطره قد عَظُمَ عن مجاراة كل الناس»[6]، فكأنه إنما يصف بذلك المثل الأعلى.
وإلى جانب هذه الكتب الشهيرة نسب إلى ابن المقفع كذلك «كتاب الدرة اليتيمة»، وقد زعموا أنه عارض بها القرآن، و«رسالة الصحابة» التي وجهها إلى الخليفة المنصور، و«كتاب خداي نامه» وهو كتاب في سير ملوك العجم، نقله ابن المقفع عن الفارسية، وهو مفقود، ونقل عن الفارسية كذلك «كتاب التاج» في سيرة أنوشروان، وهو مفقود، و«كتاب مزدك» وهو كتاب أدب وتسلية يضارع كتاب كليلة ودمنة لكنه مفقود أيضًا، إلى غير ذلك من الكتب.
مصرع ابن المقفع
«الكياسة ترك السياسة»، عبارة يجدر بالمرء أن يؤمن بها ويتخذها منهجًا حين يقف على ما جرى لابن المقفع!، فقد أسهب الرجل في كتابه الأدب الكبير ينصح الناس ويعلمهم كيف يتعاملون مع الملوك، فيقول «إذا أصبت عند الوالي لطف منزلة لغناء يجده عندك أو هوى يكون له فيك فلا تطمحن كل الطماح.. ولا تكونن صحبتك للملوك إلا بعد رياضة منك لنفسك على طاعتهم في المكروه عندك، وموافقتهم فيما خالفك، وتقدير الأمور على ميلهم دون ميلك […] فإنك لا تأمن عقوبتهم إن كتمتهم، ولا تأمن غضبهم إن صدقتهم ولا تأمن سلوتهم إن حدثتهم. إنهم إن سخطوا عليك أهلكوك، وإن رضوا عنك تكلفت من رضاهم ما لا تطيق [7]. بل إنه بالغ كثيرًا في القول بطاعة السلطان ووجوب مداراته، بقوله: «جانب المسخوط عليه والظنيين عند السلطان، ولا يجمعنك وإياه مجلس ولا منزل، ولا تظهرن له عذرًا، ولا تشن عليه عند أحد»[8]. إذا علمت ذلك كله من كلام ابن المقفع، وعلمت كذلك أنه في آخر حكايات كتاب كليلة ودمنة في باب «الحمامة والثعلب ومالك الحزين» قد نعى على من يرى الرأي لغيره ولا يراه لنفسه؛ أي ينصح غيره ويعلمه الحيلة ويدبر له أمره ولا يحسن تدبير أمر نفسه فيوردها المهالك، إذا علمت ذلك كله أدركت أن ابن المقفع كان من الحصافة في التعامل مع الملوك والولاة بمكان. لكن الأمر كان على غير ذلك، فقد خالف ابن المقفع في نفسه هذه النصائح كلها، حتى أورد نفسه الموارد.
فيروى في قصة مصرعه أنه كان أوغر صدر الخليفة المنصور، وذلك حين خرج عليه عمه عبد الله بن علي والي الشام فحاربه المنصور بجيش على رأسه أبو مسلم الخراساني، فهزمه أبو مسلم، وفر العم فلاذ بأخويه الشقيقين سليمان وعيسى، وكانا بالبصرة فآوياه، وطلبا له الأمان من الخليفة فأمَّنَه، وعُهد إلى ابن المقفع كاتب عيسى بن علي بكتابة الأمان لعبد الله، ويقال إن ابن المقفع كتب الأمان وبالغ في الاحتراس من كل تأويل يقع عليه فيه، وأسرف في توكيد الأمان فلم يتهيأ للمنصور إيقاع حيلة فيه لفرط احتياط ابن المقفع، ومن ذلك قوله: «ومتى غدر أمير المؤمنين بعمه عبد الله فنساؤه طوالق، ودوابه حبس وعبيده أحرار، والمسلمون في حل من بيعته»[9]. وكتب في الأمان كلامًا كثيرًا لا يتفق وعزة الملوك وهيبتهم وكرامتهم، فلما قرأه المنصور امتلأت نفسه غيظًا، وسأل عمن كتبه فقيل له: ابن المقفع كاتب عيسى بن علي، فقال أبو جعفر: «فما أحد يكفينيه؟!».
وكان سفيان بن معاوية بن يزيد يضطغن على ابن المقفع أشياء كثيرة، منها أن ابن المقفع كان يسخر منه ويتندر عليه لأن أنفه كان كبيرًا، فكان إذا دخل عليه قال: السلام عليكما!، وكان يسأله عن الشيء بعد الشيء، فإذا أجاب قال له (أخطأت!) ويضحك منه، فلما كثر ذلك على سفيان غضب واشتد غيظه منه، وكان ابن المقفع قال له يوميًا في معرض السب والسخرية: «يا ابن المُغْتَلِمَة والله ما اكتفت أمك برجال أهل العراق حتى تعدتْهم إلى أهل الشام». وكثرت داوعي الحقد والحنق على ابن المقفع فأضمر سفيان في نفسه أن يعمل على قتله إذا أمكنته من ذلك فرصة.[10]
وسرعان ما حانت تلك الفرصة بحادثة الأمان هذه؛ فما كاد المنصور يقول: «فما أحد يكفينيه» وكان سفيان حاضرًا، حتى أجابه إلى ذلك وظفر منه بإذن في قتل ابن المقفع. فلما قبض عليه سفيان بالحيلة قال: قد وقعتَ والله!، فقال ابن المقفع: أنشدك الله أيها الأمير!، فقال سفيان: أمي مغتلمة كما ذكرتَ إن لم أقتلك قتلة لم يُقتل بها أحد قط. وأمر بِتَنُّور فأُسْجِر، ثم أمر بابن المقفع فقطع منه عضو ثم ألقي في التنور وابن المقفع ينظر حتى أتى على جميع جسده، ثم أطبق عليه التنور!، وكان ذلك في عام حوالي عام 142هـ.
تكاد تجمع الروايات التاريخية على أن ابن المقفع مات مقتولاً على يد سفيان بن معاوية على هذا النحو، لكن بعض المصادر روت أنه مات منتحرًا، وذلك أنه حين ظفر به سفيان وأراد حمله إلى المنصور قَتَلَ ابن المقفع نفسَه، قال بعضهم إنه شرب سمًّا، وقال آخرون إنه خنق نفسه.[11] لكن رواية الحرق هي الأشهر على كل حال.
وذهب بعض المؤرخين وكُتَّاب التراجم إلى أن ابن المقفع كان متهمًا بالزندقة، وكان ذلك من مسوغات قتله. ذكر ذلك عبد القادر البغداي في خزانة الأدب، وابن خلكان في وفيات الأعيان، وقال الرواة إنه كان منافقًا في إسلامه، لم يسلم إلا ابتغاء عرض الدنيا، وأنه كان يضمر المجوسية التي آمن بها زمنًا قبل اعتناقه الإسلام، وذكروا في ذلك شبهًا لا دليل عليها ولا يقام لها وزن في تكفير المؤمن وإخراجه من الإسلام وقتله.
ومهما يكن من أمر، فقد كان ابن المقفع فارسًا من فرسان البيان والنثر العربي، وإمامًا من أئمة الطبقة الأولى من الكتاب، أثرى الثقافة العربية بعدد من الكتب الطريفة، وكان له أسلوب عُرف به، وبلغ به من الشهرة مبلغًا عظيمًا، حتى طبقت شهرته الآفاق، وصار مضرب المثل في فن الكتاب على مر الأزمان.
المراجع
[1] عبد اللطيف حمرة، ابن المقفع، دار الفكر العربي، ص 38 – 39.[2] خليل مردم بك، ابن المقفع، مكتبة عرفة بدمشق، 1930، ص62 – 63.[3] عبد اللطيف حمزة، ص 133، خليل مردم، ص 64.[4] ابن المقفع، خليل مردم، ص 64.[5] آثار ابن المقفع، دار الكتب العلمية بيروت، ط1، 1989، ص 285.[6] آثار ابن المقفع، ص 251.[7] آثار ابن المقفع، ص 261 – 262.[8] ابن المقفع، خليل مردم، ص 49.[9] السابق، ص 35.[10] في أخبار حادثة قتل ابن المقفع ينظر: عبد اللطيف حمرة، ابن المقفع، دار الفكر العربي، ص 222 – 232.[11] ينظر في ذلك «ابن المقفع أديب العقل» للدكتور فكتور الكك، دار الكتاب اللبناني بيروت، ط1، 1987، ص 12 – 14.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يرجى التكرم بالالتزام بقواعد حرية الراي وحقوق النشر