من يغتال إلهنا الأخير؟
نبيل فياض،
أيهما يا ترى: هل الإله مجرّد خطيئة إنسان، أم الإنسان مجرّد خطيئة إله؟ (نيتشه)
أهورا مازدا؛ عشتار؛ بوذا؛ براهما؛ بعل؛ أماتيراسو أوميكامي؛ الله؛ أودن؛ يهوه؛ ثيو؛ يسوع المسيح؛ ميثرا؛ طاووس ملك؛ إيل.. إلخ! أسماء لا تنتهي لآلهة عبدها الناس في مختلف أصقاع الأرض؛ بعضها كان حظّه أقوى من حظّ غيره، فاستمرّ في التواجد؛ وبعضها الآخر لازمه سوء الطالع أو انتهت صلاحيته، مثل بعل أو ميثرا، فانتهت عبادته، وإن بقي شيء من طقوسه ولاهوته عند هذا الإله أو ذاك!
من أهم الفلاسفة وعلماء الاجتماع الذين تركوا في ذاتي أثراً لا يمحى، والذين عرفتهم من دراستي المتواصلة لنيتشه، فريدريش ألبرت لانغه ( FRIEDRICH ALBERT LANGE, 1828-1875)، المفكّر الألماني البارز، المجهول للقرّاء باللغة العربيّة، صاحب الكتاب الهام للغاية !Geschichte des Materialismus هذا الكتاب الهام، الذي ترك عند نيتشه بصمة أبديّة، لعبت دوراً محوريّاً في صوغ الفلسفة النيتشويّة، التي كانت الإلهام لفلسفات أخرى عرف بعضها انتشاراً شعبيّاً في النصف الثاني من القرن الماضي! كان ملخّص كتاب لانغه الهام هو أن وجود الإله أو عدم وجوده مسألة لا يمكن للعقل البشري البت بها، لأن وسائله المعرفيّة وصول إلى الألوهة غير كافيّة! قد يكون ثمّة إله: وقد لا يكون! لكن أدواتي البشريّة للتواصل معه، إذا استثنينا الخيال، قاصرة. من هنا، فالحكم المطلق في قضايا الماوراء ليس أقل من خطأ مطلق. ـ وكنت عالجت مقولات لانغه بنوع من التفصيل في كتابي، نيتشه والدين! (مع ميشائيل موترايش وشتيفان دانه).
باعتراف الجميع، ما من مفهوم عن الإله يمكن أن يكون موفياً بالغرض تماماً: فالإله مختلف عن بندقيّة الصيد التي يمكن توصيفها بدقّة تفصيليّة! الإله مفهوم متصوّر، وبالتالي فالمخيّلة هي العنصر الحاسم في خلقه! وإذا كان الإله حقيقة مادّية أو طبيعيّة، لكان من الواجب أن تتحد الآراء كلّها في تصوّره أو وصفه، لا أن تصل مفاهيمها التصوّريّة له إلى حدود التناقض! ليس هذا فقط، بل إنّ مفهوم الإله التصوّري الذي يختلف من مكان إلى مكان، ومن بيئة إلى بيئة، يختلف أيضاً في المكان ذاته بين زمان وآخر، بين حضارة وأخرى.
إذا انتقلنا إلى الأمثلة التوضيحيّة، يمكن أن نقول إن المفهوم المسيحي للإله، الأقانيم الثلاثة، متناقض بالكامل مع عبادة يهوه التوحيدية المطلقة، التي نشأت المسيحيّة على تربتها! بالمقابل، فمفهوم الماوراء عند البوذيين متناقض للغاية مع مثيله عند الهندوس، الذين نشأت البوذيّة بينهم. من ناحية أخرى، فالمفهوم الإسلامي للإله، الذي يشبه إلى حدٍّ ما مثيله عند اليهود، يتناقض حتى التكفير مع الأقانيم المسيحيّة الثلاثة. مثل ذلك أيضاً التناقض في اليابان في مفهوم الماوراء عند الديانتين الأهم هناك: أي، الشنتو والزن! وإذا ما حاولنا الآن أخذ الجانب الزماني بعين الاعتبار، عبر أمثلة محليّة للغاية، لأمكننا القول، إنّ سوريّا الكبرى عرفت من الآلهة، على مر الزمان، أكثر مما عرفته أية منطقة أخرى: فمن التعدّديّة الإلهيّة الصريحة زمن السومريين والآشوريين والبابليين وغيرهم، مروراً بالثالوث المسيحي، وانتهاء بالتوحيد
الإسلامي المطلق
!
لم تكن الآلهة محليّة كلّها: ففي بعض الأحيان كان أحد الآلهة يهاجر من موطنه الأصلي إلى مواطن أخرى تقرب أو تبعد! على سبيل المثال، كان ميثرا، إله الشمس الفارسي الذي قد يكون من أصول هنديّة، أحد الآلهة الذين صدّرتهم إيران إلى بعض حوض المتوسّط، خاصّة سوريّا، وما تزال آثار ميثرا ماثلة للعيان في كثير من طقوس المسيحيّة، خاصّة عيد الميلاد! من سوريّا الكبرى خرج أشهر الآلهة في تاريخ العالم حتى اليوم وأكثرها انتشاراً ـ الثالوث المسيحي. وقد امتدّ تواجد هذا الإله الهام من أدغال سيبريا إلى مجاهل الأمازون، مروراً بالقارّة السمراء وجزر العالم النائية. ومن شبه جزيرة العرب خرج إله آخر يمكن اعتباره اليوم الأكثر تنافسيّة لإله الأقانيم الثلاثة المسيحي الشهير. فإله المسلمين، الله، وصل حتى الصين وساحل أمريكا الغربي، بما يفوق في اعتقادنا أقصى ما كان يمكن لمحمّد تخيّله!
الإله، كمفهوم أنتجته المخيّلة البشريّة، يعبّر في نهاية الأمر عن الواقع الثقافي ـ الحضاري للشعب الذي أنتجه. فمن المستحيل، طبعاً، أن نجد في شبه جزيرة العرب إله ثلج كالذي نجده في بعض الميثولوجيّات؛ ومن المستحيل أيضاً أن نصادف إلهاً للبحر في منغوليا أو إلهة أنثى في مجتمع أبوي. الإله المسيحي، مثلاً، هو نتيجة زواج متقلقل بين الفلسفة اليونانيّة والتصوّف الأسيني؛ مع طغيان ترّجيحي لليوننة الأقوى حين انتشرت المسيحيّة في صفوف وطن الفلسفة. الإله اليهودي، من ناحية أخرى، تعبير صارم عن مشاعر شعب بدوي عاش مسكوناً بمقولات الحفظ الذاتي! الإله اليهودي الجاف القاتل المحارب المتعطّش دائماً للدماء، كما يبدو من بعض أعياد اليهود الدينيّة وكف اليدّ الحمراء فوق أبوابهم، ليس أكثر من شكل بدائي للألوهة دخل بطريقة ما زمناً مختلفاً للغاية عن زمن نشأته الأولى.
وقد أدرك معظم اليهود هذه الحقيقة فاستنبطوا مفاهيم للإله أكثر حضارة من يهوه القديم وملاءمة للعصر! وكان القباليّون بشكل إلههم الشهير من أوائل الذين أدخلوا تعديلات جوهرية على يهوه المفهوم: دون أن ننسى من ثمّ الآثار الخارجيّة القويّة لمجمل مفاهيم غير ذات علاقة ببيئة يهوه الأصليّة في مفهوم الإله القبالي. في العصر الحديث اجتاز مفهوم يهوه تغييرات جذريّة مع تأسيس واحدة من أهم طوائف العالم عقلانيّاً: أي، اليهوديّة الإصلاحيّة. في اليهوديّة الإصلاحيّة لانت حدود الإله وتأنسنت تقاطيعه المخيفة واخضرّ قلبه المتصحّر. وكان ذلك نتيجة التفاعل الحتمي بين العقل الأشكنازي والبيئة الألمانيّة المثقفّة وقت أينعت تيارات الفكر في وطن الفلاسفة!
الإله المسيحي، حين دخل إفريقيا، أحملوه من روح القارة السمراء الكثير. صارت الليتورجيا أقرب إلى الألحان الزنجيّة الصاخبة؛ صار يسوع إفريقيّاً والعذراء سوداء؛ بل زاوج الزنوج بين المسيحيّة الوافدة وثقافتهم المتوارثة لتخرج إلى الوجود أجنة أديان جديدة، كما في كوستاريكا مثلاً، مختلفة كثيراً عن الأصل الفلسطيني القديم. وفي كوريا عرف الإله المسيحي تعديلاً حمل الروح المحليّة عبر ما يسمّى بالحركة المونيّة (راجع كتابنا عن صن ميونغ مون). المورمونيّة، كما عشناها بين لبنان وسوريّا لفترة غير قصيرة [لهم كنيسة في المكلّس في بيروت الشرقية، وكانت لهم كنيسة في منطقة الروضة في دمشق]، ليست في نظرنا أكثر من تطعيم للمسيحيّة البروتستانتيّة بالأعراف المستحدثة لمستوطني الولايات المتحدة من البيض!
من هنا فقد كنّا على الدوام ضد تبشير ـ بمعنى أوضح: فرض مفهوم آخر لإله غريب ـ من يسمّونهم بالشعوب المتخلّفة: خاصّة وأن هؤلاء يمتلكون مفهومهم الخاص للألوهة، النابع من بيئتهم الطبيعيّة-الثقافيّة! وحين نفرض على هؤلاء مفهوماً جديداً للألوهة غريباً عنهم، فنحن نحدث كسراً في ذواتهم المعرفيّة ليس من السهل إصلاحه. ـ خاصّة وأن غالبيّة المبشّرين كانوا يحملون في دواخلهم روحاً استعلائيّة باعتبارهم ـ اعتقادهم الخاص ـ يمتلكون المفهوم الأكمل للألوهة.
في الإسلام، عرفنا تحويرات فلسفيّة-حضاريّة لمفهوم الإله مع زواج هذا الدين الرعوي بالتيارات الفكريّة الزراعيّة يونانيّة الجذور ـ أحياناً فارسيّة ـ في بلاد الشام تحديداً؛ من هنا، يمكن أن نفهم نشوء ما سمّي بالحركات الباطنيّة، الإسماعيليّة والعلويّة والدرزيّة بشكل خاص، التي أرادت تعديل الشكل غير الحضاري لمفهوم الإله البدوي. لكن هذه الحركات، كونها نشأت خارج منطقة "الأمان" الفلسفي، تراجعت حتى تخوم الاضمحلال: بعكس اليهوديّة الإصلاحيّة التي أينعت وأزهرت في ألمانيا.
حتى الآن لم يجرؤ أحد على طرح مقولة أن الإله بشكله الإسلامي التقليدي: الإله الجبار العنيد القاتل المنتقم المبيد ـ لم يعد يناسبنا كشعب يتلمّس طريقه نحو الحضارة. وتغيير مفاهيمنا للإله لا يعني تغييرنا للإله أو رفضنا لوجوده، فذلك خارج نطاق قدراتنا البشريّة المقيّدة. مفهومنا للإله مختلف إبستمولوجيّاً عن الإله ذاته، الذي لا يستطيع أحد البرهان بالدليل القاطع على أن مفاهيمه عنه هي الأصح. الإله الإسلامي الذي ورثناه من زمن البداوة والقتل والسبي والجواري والتسرّي؛ الإله الإسلامي الجامد المعادي للنقد وحرية الحركة والتعبير؛ الإله الإسلامي المقيّد لعابديه عقلاً وحياة وروحاً، صار لابدّ من تعديله جذريّاً.
العلاقة بين الإنسان ومفهومه للإله جدليّة واضحة؛ فالإنسان ينسج مفهومه للإله من واقعه الخاص الزماني المكاني، وحين ينقل هذا المفهوم للأجيال التي قد تأتي بعده فهو يسرمد عبر هذا المفهوم الجامد زمانه ومكانه الخاصيّن. لقد جاء محمّد بمفهوم لله لا يخرج عن واقعه البيئي، ونحن حين نتبنّى هذا المفهوم دون تساؤل فنحن إنما نسجن أنفسنا ضمن تفاصيل لا علاقة لنا بها حضاريّاً. الإله زمن محمّد عكس تصوّرات النبي العربي لما يحيط به؛ وحين نتبنّى إله محمّد دون تغيير فنحن إنما نرمي ذواتنا بنوع من الشيزوفرنيا الحادّة خارج زماننا ومكاننا، في بيئة مغايرة بالكامل عمّا نعيشه الآن.
مفهوم الإله يجب أن يعبّر عن واقع شعبه؛ وحين يتبنى شعب مفهوم إله غريب عن واقعه بالكامل، فهو يحكم على نفسه بعدائيّة الصيرورة: وبالتالي السكون الانتحاري.
نبيل فيّاض
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يرجى التكرم بالالتزام بقواعد حرية الراي وحقوق النشر