علاقة الإنسان بالمقدس…
--------------------------
اختصاراً يطلق البعض على المقدس تسمية “الإله” وهي تسمية شاملة لكل ما هو مقدس بالنسبة للإنسان، المقدس أو الإله لا ينتهي ولا نستطيع كبشر إدراكه بذاته، ولا يصح وضعه في معادلة الثنائيات المادية الخير والشر الكره والحب الفجور والتقوى الجنة والنار، فمفهوم المقدس مطلق لا يمكن حده أو وصفه أو حصره بصراع أو هدف أو نتيحة …لوحة بعنوان "Eve" بواسطة Susan Cornelis
خُلق الإنسان مرتبطاً بالمقدس من خلال الوجود الذي يُعتبر الإنسان جزءاً منه، ولو بحث الإنسان في ذاته لوجد صلة الوصل المباشرة مع المقدس، دون الحاجة لوسيط وهذا ما يسمى بـ “الفطرة” في بعض المعتقدات الدينية والفلسفية، وهي غير قابلة للتطوُّر أو التغيُّر على اعتبار أنها جوهر الإنسان، بعكس الغريزة القابلة للتغيُّر والتطوُّر والتبدُّل سلباً أو إيجاباً، ويمكن اختصار غريزة الإنسان بغريزة واحدة وهي غريزة البقاء والاستمرار التي تنبثق منها كل الغرائز الأخرى من جنس وجوع وتملك… وغيرها، ولا يمكن اعتبار الغريزة نقصاً أو خطيئةً بحد ذاتها، إلا أن انحرافها يعتبر كذلك، فالخطيئة ليست الجنس إنما الشبق الجنسي، وليست التملك إنما الجشع، وليست الجوع إنما النهم، وليست السيطرة إنما التسلط (1)، ويعتبر العقل هو المرشد الأول للتحكم بالغريزة الإنسانية للإدراك والتمييز بين الخير والشر وبين النافع والضار، أما الإرادة فهي المقياس الذي يقود إلى غلبة أحدهما على الآخر…
لاحظ الملعقة لا تتغير إلا أنك تراها بأحجام و أبعاد مختلفة حين تراها من خلال الهواء أو الزجاج أو الماء من منظور مادي إن عملية الانتقال من القدسية إلى المادية يشبه إلى حدٍ كبيرٍ عملية انكسار الضوء عند انتقاله من وسط إلى آخر، حيث تختلف سرعته مع بقاء التردد ثابتاً، فالمقدس يصل إلينا بعد مروره عبر سطح المادية بصورة طيفية تُظهر اختلاف المفهوم المادي عن القدسي، فنراه من مناظير مختلفه حسب قدراتنا الحسية والفكرية دون أن يطرأ أي تغيير على المقدس الثابت، وقد أثبت أينشتاين أن موجات الضوء تستطيع أن تنتشر في الخلاء دون الحاجة لوجود وسط أو مجال، على خلاف الموجات الأخرى (2)، وكذلك هو المقدس، الأنبياء والرسل هم قادة حقيقيون ندركهم مادياً، أما الإيمان بهم فنابعٌ من الإيمان بالمقدس، وهم ككل الموجودات متصلون بالمقدس، ربما مرّوا بتجربةٍ روحيةٍ مباشرة مع المقدس حسب كل معتقد، ثم نقلوها إلينا كطيفٍ مرئيٍ يتناسب مع بنية المجتمع وطبيعته الحضارية والفكرية والثقافية، مع بقاء المقدس (التردد) ثابتاً، فالمقدس لا يتغير مهما توالت الحضارات والمجتمعات والمعتقدات، كما أنه لا يحتاج لوسط أو وسيط ليثبت وجودة، بل ينتشر عبر كل الموجودات بصورة غير مادية، وهذا يدلنا على قصورنا وكماله، فالإنسان يحتاج إلى وسيط روحي (أو أكثر من وسيط) عندما يضل عن صلة الوصل المباشرة بينه وبين المقدس أو”الإله”، وعليه يمكن أن يكون لكلٍ منا تجربة روحية مع المقدس بشكل مباشر….
ومن منظور الثنائيات المادي يمكن ربط الشر بالغريزة كصفة لانحرافها السلبي، الذي يؤدي إلى الخطيئة، إذاً فالخطيئة لا تورث ولا يولد الإنسان بها، لأننا لو افترضنا بأننا نولد بها فهذا يعني إنكار أساس الوجود الإنساني المتمثل بالغريزة “المتغير” والفطرة “الثابت”، أما الخير فهو منحى الغريزة الإيحابي الذي يقودنا إلى “الجنة” المُعتَقَد بوجودها في المُسلّمات الدينية، وهي المكان الذي وُجد فيه الإنسان ويعمل من أجله على الأرض، للعودة من دار الفناء إلى دار البقاء، دون أن يَعلم عنها سوى ما تمليه عليه الديانات لإغرائه بالنعيم والرغد الذي سيرفل به الإنسان فيها، دون أن يدرك ذلك بمفاهيمه المادية، فما النار إلا المكان الذي سيعود إليه الشر كصفة لانحراف الغريزة أو المتمثل بإبليس الذي خلق منها ليعود إليها لينتهي الشر إلى النار وينتهي الخير في الجنة، بعبارة أعم ينتهي كل شيء إلى المكان الذي وجد منه وفيه، ومن منظور مادي ما يقدمه له على مبدأ “الأجر وفقاً للجهد”، ويبقى المقدس بقاءً سرمدياً أزلياً فلا شيء يأتي من العدم ولا شيء ينعدم، مادياً المادة لا تفنى ولا تستحدث ولا توجد من العدم (4).
الشيطان هو مخلوق لا ندركه بقصور حواسنا، لكنه مخلوق كسائر المخلوقات وبغض النظر عن طبيعة تكوينه، فإن إعطائه سمة التفرد عن باقي المخلوقات يجعله نظيراً للمقدس، ولا يمكن لمخلوق أن يكون نظيراً أو نداً للمقدس، ولكننا دوماً نحتاج إلى تفسيرِالأمور بصورة مادية، فالشيطان ما هو إلا تعبيرعن الشر أو الخطئية أو الدنس، وبإيماننا بوجوده نصل إلى المقدس بطريقةٍ أو بأخرى.
فمن أين يأتي الشر؟، وهل الشر المتمثل بالشيطان هو المسبب الأساسي في انحراف الغريزة الإنسانية وصولاً إلى الخطيئة؟
وجود الشر كمقابل للخير أمر منطقي بوجود الإرادة الحرة للإنسان، وكل الجزئيات الكونية خُلقت لتكون متكاملة ومترابطة، قال تعالى عن طريق النبي أشعياء عليه السلام: “أَنَا مُبْدِعُ النُّورِ وَخَالِقُ الظُّلْمَةِ، أَنَا صَانِعُ الْخَيْرِ وَخَالِقُ الضُّرِّ، أَنَا هُوَ الرَّبُّ فَاعِلُ كُلِّ هَذِهِ”..(5).
ضِمْن حدود الخطيئة يُحَدِّد الإنسان الحرية الممنوحة له بالاختيار دون أنْ يُدرك أساساً بأنه لا يستطيع تحديد ماهية الخطيئة ولا عواقبها ولا كيفية الوصول إليها، وأنها محكومة جميعها بالمقدس طاعةً أو عصياناً، لكن المفهوم المادي يعطي أبعاد تلك الحدود لتتأطر بالعادات والتقاليد والأعراف والمعتقدات السائدة، ويبقى مقدار الجزاء الذي سيناله الإنسان مجهولاً لقاء أي فعلٍ سواء بالسلب أو الإيجاب، فهذا اختصاص المقدس، ومحاولة الإنسان لقياسه ما هي إلا تعبيرعن خوفه من العقاب أو رغبته في الثواب أو حبه للمقدس بشكل مادي ليقترب إلى كل ما هو مادي حوله حيث يُخلق ويحيا ويموت ليرتبط بشكل غير مباشر بالمقدس…
الحقيقة ليست خرافة والمقدس ليس أسطورة، وما يربط الأسطورة بالمقدس هو أن كليهما لا يمكن إدراكه بحواسنا القاصرة، لكن ما يميز المقدس هو ثباته وإمكانية الاستدلال عليه وذلك بالانتقال من المستوى المادي إلى المستوى الروحي، ويبقى المقدس لغزاً يحرك الوجود بآلية لا نُدركها بماديتنا إذا لم ننتقل إلى المستوى الروحي بالإيمان بوجود ما ورائيات وغيبيات، لكننا نستطيع أن نُدرك هذا الوجود من خلال من خلال الجزئيات الكونية والكينونات الخلقية المادية..
إذاً الإنسان ليس كيان بيولوجي وُجد صدفة، لأن هذه الفكرة تُلغي فطرتنا وحقيقتنا الأولى المرتبطة بالمقدس المُوجد لكل شيء مادي والموجود في كل شيء مادي، لكن علينا ألا نسمح لما هو مادي بأن يحجب علاقتنا بالمقدس، لنصل إلى المقدس سواء من خلال أنفسنا أو من خلال شيطاننا أو من خلال وسيط روحي، وينبع إيماننا بالمقدس أساساً باعتباره مصدر الوجود جميعاً ووجودنا، فالمسافة التي تفصلنا عنه غير قابلة للقياس لانعدام وجودها روحياً وامتدادها اللامحدود مادياً، وعلينا أن نعي المسافتين لنصل إلى المقدس بالاعتقاد الذي نعتقده حتى وإن لم تدركه حواسنا….
_________________________________________________________________________
(1) ………. انظر الخطايا السبع المميتة الذنوب الكاردينالية وتتألف من “الرغبة” و”الشراهة” و”الجشع” و”الكسل” و”الغضب” و”الحسد”، و”الغرور”.
(2) ………. النظرية النسبية الخاصة 1906 ” ألبرت أينشتاين
(3) ………. قانون حفظ المادة أو قانون حفظ الكتلة أو قانون بقاء المادة أو يعرف باسم قانون (لافوازييه–لومونوسوف).
(4) ………. (سفر أشعياء ٤٥، ٧) أشعياء هو الكاتب لسفر أشعياء في العهد القديم من الكتاب المقدس.
(5) ………. من الفلسفات الصينية القديمة.
https://ndamas.files.wordpress.com/2012/05/apple1.jpg
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يرجى التكرم بالالتزام بقواعد حرية الراي وحقوق النشر