خلاصة من بحث عقون مليكة 'الإسلام السياسي في الجزائر.. أثر ابن تومرت'، ضمن الكتاب 130 (أكتوبر/تشرين الأول 2017)'مرجعيات العقل الإرهابي: المصادر والأفكار' .الصادر عن مركز المسبار للدراسات والبحوث- دبي
ميدل ايست أونلاين
استخدام قاموس ابن تومرت

"إلى القوم الذين استزلهم الشيطان، وغضب عليهم الرحمن، الفئة الباغية، والشرذمة الطاغية اللمتونية، أما بعد فقد أمرناكم بما نأمر به أنفسنا، من تقوى الله العظيم ولزوم طاعته(...) وقد وجبت لنا عليكم حقوق بوجوب السنة، فإن أديتموها كنتم في عافية، وإلا فنستعين بالله على قتلكم، حتى تُمحى آثاركم، ونكدر دياركم، حتى يرجع العامر خاليا، والجديد باليا، وكتابنا هذا إليكم إعذار وإنذار وقد أعذر من أنذر، والسلام عليكم سلام السنة لا سلام الرضا"، فأي بيان أقوى من هذا؟
لعلّ مضمون هذا الخطاب يؤكد تكفير الخصم وبغيه وطغيانه، كما يوضح ادعاء ابن تومرت أحقيته في الإشراف عليهم، وحفظ حقوق العامّة من خلال التزامه بالاتجاه السنيّ، ثمّ ينذر ويحذر ويتوعّد خصومه المرابطين بالقتل، وإهدار دمهم، وهدم ديارهم، وجعل عاليهم سافلهم،، فبهذه الروح النقدية الثائرة الهادفة لإصلاح أحوال الناس عن طريق الالتزام بأصول الشريعة كتابا وسنّة -حسب ادّعاء ابن تومرت- بعدما أضلهم أمراء المرابطين وفقهاؤهم، كما صرّح لهم بذلك ابن تومرت من خلال إحدى رسائله إلى الأمير المرابطي علي بن يوسف قائلا: "إنكم لستم بمؤمنين، ولا تؤمنون بلا إله إلا الله، وإنّها كلمة تقولونها عند الخوف والتعجب، وتارك واحدة من السنة كتاركها كلها، ومن أجل ذلك دماؤكم حلال، ومالكم فيء، وقد بينا لكم وأوضحنا السبيل، وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون".
كما عاب عليهم تحرّر نسائهم واستهتار أكابرهنّ في الوسط الحاكم إذ يقول: "يتشبهن بالرجال في الكشف عن الوجوه بلا تلثم ولا تنقيب"، ثم يستمرّ في انتقاد سفورهن وفجورهنّ بأنهن، "كاسيات، عاريات(...) وأنهن مائلات عن الحق والرشاد، مميلات رؤوسهن كأسنمة البخت"، حيث تؤكد المصادر التاريخية هذا الفجور. كما عاب عليهم شرب الخمر والفجور، ولقد أفرد ابن تومرت لهذه المعصية كتابا كاملا، مستقلا ضمن مؤلف "أعز ما يطلب"، وهي أكثر المنكرات التي تعرض لها ابن تومرت توضيحا، وقد جاء "كتاب تحريم الخمر" بخلاف الكتب الأخرى حيث ضمّ عدّة أبواب، تعكس لنا مدى انتشار الخمر في الحياة الاجتماعية المرابطية والإدمان عليها ابتداء من الصفحة (363) التي يذكر فيها صناعة الخمر بحجة التداوي ثم توضيح العقاب الذي يلحق شارب الخمر، ثم يلحق ذلك بأصناف المسكرات التي تسمى خمرا، كالقمح والشعير والعنب والتمر"، ثم تحريم كل ذلك، حتى الأواني التي يوضع فيها، فإنه دعا إلى كسرها وتحريم الانتفاع بها بالكتاب والسنة وانعقاد الإجماع على ذلك.
لذلك جاء خطاب ابن تومرت خطابا سيفيا قصد إلى نفي مشروعية الحكم المرابطي بحد السيف للنهي عن المنكرات في وضع، تبيّن شذوذه وانحرافه بشكل جوهري عن تعاليم الشرع -في نظره.
إنّ هذا الخطاب المقاتل التومرتي له من الدّلالات والامتدادات التّاريخية التي سوّغت وبرّرت توظيفه، كما كثّفت من استعماله في وقتنا المعاصر على يد الحركات الإسلامية التي استحضرته في مواجهة أنظمة الدّولة الوطنيّة، التي تصفها بالاستبداد والكفر والطّغيان ووجوب جهادها، تماما كما فعل ابن تومرت مع خصومه. والأمثلة الآتية توضّح حجم التّطابق وحقيقة هذه المحاكاة بين نموذج ابن تومرت الذي استلهمت منه الحركة الإسلامية المنهج والأسلوب عبر مرحلتين: اعتمدت في الأولى على أسلمة تحتية، عن طريق الدعوة والإصلاح والتربية، وتمتين الروابط الاجتماعية المحلية (نبذ رباط الدم واستبداله برباط روحي قائم على الأخوّة في الله) أما المرحلة الثانية: فقد اعتمدت فيها على أسلمة فوقية (محاولة الوصول إلى السلطة) عن طريق الجهاد الذي أضفى مشروعية أكبر على هذه الحركات.
بسبب فقر الفقه الإسلامي السياسي، مقارنة بجوانب الفقه الإسلامي الأخرى كالعبادات والمعاملات، سواء من حيث الكم أو الكيف، لأن الشريعة الإسلامية قد ظلت المرجع الوحيد للحكم منذ تأسيس دولة المدينة، كما شكلت مصدر الأحكام في القضاء، غير أن القطيعة التي تشكلت بين الحكام والفقهاء بسبب آرائهم السياسية، ولأسباب أخرى لا مجال لذكرها في هذا السياق، أدت إلى تراجع وضآلة الإنتاج السياسي الإسلامي، وغلق باب الاجتهاد في مجال الفقه السياسي، وصور التاريخ الإسلامي، حافلة بمشاهد الدم، والاستعراضات واضطهاد الفقهاء وتغييب العدل ومطاردة العقل.
أما إذا أخذنا بعين الاعتبار ما تطالب به هذه الحركات الإسلامية، فلعل أول ما تطالب به إقامة الحكم بما أنزل الله، فمفهوم الحكم الديني هو مفهوم غريب نسبيا عن المرجعية الإسلامية، لأن من قام بتوظيفه في العصر الحاضر هو المفكر أبو الأعلى المودودي، قبيل قيام دولة باكستان سنة 1948، نتيجة للتجاوزات التي قامت بها الأغلبية الهندوسية ضد الأقلية المسلمة، كما أن مفهوم الحكم في الإسلام لا يعني تطبيق الشريعة حرفيا، حسب ما ذهب إليه كبار المفسرين أمثال الزمخشري، والسيوطي... إنما يعني الفصل بين الناس في الخصومات فقط، كما أنه لا أحد بإمكانه الادعاء بأن الخلافة تشكل مبدأ من مبادئ الإسلام، لأن الإسلام لم يوجبها ولم ينه عنها، خلافا لما تدعيه الحركات الإسلامية، في محاولتها العودة بالقوة إلى نموذج النبوة والسلف الصالح، مصداقا لقوله (صلى الله عليه وسلم): "المسلمون أدرى بشؤون دنياهم"، فما يسمى بضغط النص ومنهج العنف في التغيير لا يجوز، ولا مسوغ له، وأقل ما يقال عنه: إنه انحراف لم يزد صورة الإسلام بمعية وسائل الإعلام الغربية، إلا تشويها، ومن ثم نشوء ذلك التصور الجامد لديه عن الإسلام، (مقال سابق حول علاقة الحركة الإسلامية بالديمقراطية، الناصرية للدراسات الاجتماعية والتاريخية، العدد الثاني، 2012، ص147-148).
أما بالنسبة لحركة ابن تومرت، فإن ما ينطبق عليها هو قول أحد كتاب القرن الثامن الهجري، وهو الحسن بن عبدالله العباسي، صاحب كتاب "آثار الأول وترتيب الدول" في معرض حديثه عن الزهاد المغالطين باسم الزهد: "أنه ينبغي أن ينظر في حالة هذه الطائفة، ويميّز محقهم من مبطلهم، ويفرّق بين الزاهد والمتزهّد(...) وفهم أصناف من أهل الغلط في طريق الزهد والمغالطة، لأغراض أخرى، فمنهم صنف يغلب عليه محبّة الرئاسة والإمارة، ويتفق إعراض الملك عنهم وانقباضه لمخالفة طبعه لطباعهم، وأن ذلك مما يحملهم على الطعن على أقوال الملك، وإهماله لضوابط الشريعة، ثم يجمعون حولهم جموعا، ويقصون عليهم من الأمور ما يحركون به غرائزهم لتغيير المنكر، فإن أهمل الملك أمرهم عظم أمرهم وتفاقم، وكان منهم خطر عظيم...".
لعلّ هذه الحركات ستظل قائمة، وسيظل أبطالها المزيفون يأمرون وينهون باسم الدين، لا يرون في القنافذ أملسا، ولا يرفعون لعلماء الأمة رأسا، طالما ظل العقل سجين الاستبداد، استبداد فقهاء البلاط وعلماء السلطان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يرجى التكرم بالالتزام بقواعد حرية الراي وحقوق النشر