نحن الآن في شمال صعيد مصر، على مسيرة مراحل معدودة جنوب الجيزة، في منتصف عام 562 هـ (1167م)، حيث تدور معركة حامية الوطيس على الشاطئ الغربي لنهر النيل، في منطقة كانت تعرف بالبابيْن. وقودها جيشان أتيا من بعيد، ليتصارعا على حكم مصر التي كانت بعد قرنيْن من الحكم الفاطمي، أشبه بقصرٍ نفيس، سكنه العناكب، واستعمره التراب، يستجدي بريقه مريدي المغامرة، ومقدِّري الجمال الدفين.
كان الجيش الأول – وقوامه كما يذكر ابن الأثير في كتابه «الكامل في التاريخ»، ألفا فارس- هو جيش ملك الشام العادل نور الدين محمود بن زنكي، الذي ثبَّت ملكه على أجزاء كبيرة من الشام، بشرعية استكماله مسيرة الجهاد الملحمي، التي بدأها أبوه الأتابك عماد الدين زنكي، ضد الممالك الصليبية، التي احتلَّت بيت المقدس وفلسطين، وكامل الساحل الشامي قبل عشرات السنين. كان يقود الجيش النوري المتوغل في مصر، الأمير أسد الدين شيركوه، أبرز الأمراء المحاربين في حاشية نور الدين محمود، ويعاونه في تلك الغزوة ابن أخيه، الأمير الشاب صلاح الدين يوسف بن أيوب، والذي جاء إلى مصرَ مُكرَها بضغطٍ من عمه، الذي كان يحبُّ مصاحبَته.
أما الجيش المقابل، فتكون من الآلاف من فرسان ومشاة مملكة القدس الصليبية، بقيادة ملكها المغامر الطموح، أمالريك، يدعمه قوات مصرية يقودها وزير مصر المتلوِّن شاور، والذي كان مستعدًا للدفاع عن سلطانه بكل ما يتاح له من الوسائل؛ ولذا لم يتردَّد في الاستغاثة بالصليبيين عندما بلغته أنباء غزو شيركوه لمصر، لضمها إلى سلطان الملك العادل نور الدين محمود.
نجح جيش شيركوه في إيقاع جيش الصليبيين وشاور في كمين محكم، بعد أن انسحب قلب جيشه بقيادة صلاح الدين انسحابًا تكتيكيًّا، اندفع خلفَه فرسان الصليبيين، فتركوا باقي الجيش فريسة سهلة لميمنة شيركوه القوية التي قادها بنفسه لسحق الصليبيين، وعاد الفرسان بعد مطاردة عبثية ليصعقهم كما حدث لمؤخرة الجيش ومشاته، فلم يثبتوا.
بعد 20 عامًا من موقعة البابيْن، سيكون صلاح الدين الأيوبي، الذي أتى مصر مكرَهًا وفاءً لعمه الذي كان يعده كأبنائه، على موعد خاص مع التاريخ، إذ سيحفر اسمه بالنحتيْن البارز والغائر على الصفحات التي سطَّرها مؤرخو الشرق والغرب، قدامى ومعاصرون، عندما استدرج الصليبيون إلى موقعة حطين الفاصلة، التي حضَّر لها لسنواتٍ، ليحقق انتصارًا مدويًا، أتبعه بعد أشهر بتحرير القدس بعد أكثر من 90 عامًا من الاحتلال الصليبي.
لكن لم تمر تلك السنوات العشرون مرور الكرام، فقد تخلَّلها ملاحم كبرى، كان أبرزها اعتلاء صلاح الدين عرش مصر، مجابهًا طوفانًا من المؤامرات والثورات والفتن، التي كادت تطيح بعرشه ورأسه على مدار سنوات، قبل أن ينجح في تثبيت سلطانه بمصر، وضم الشام إليها بعد سنواتٍ مريرة من الصراع مع الأمراء الذين تقاسموه بعد وفاة الملك العادل نور الدين محمود.
مصر.. معركة الجولات الثلاث
لم يكن انتصار البابيْن العظيم كافيًا ليكتمل استيلاء الشاميين على مصر، رغم سيطرتهم بعده على عاصمة مصر التاريخية، الإسكندرية، بمعاونة أهلها، إذ صبر فيها صلاح الدين بجزء من الجيش لعدة أشهر، أمام حصار محكم من الصليبيين وحلفائهم أنصار شاور، دون نجاح شيركوه والجزء الآخر من الجيش في فك الحصار، أو نجاح المحاصِرين في اقتحام المدينة.
هكذا انتهت تلك الجولة في الصراع على مصر – والتي كانت ثاني الجولات– بما يشبه التعادل، إذ اتفق الصليبيون والشاميون على الانسحاب من مصر، وتركها لشاور، الذي اشترط عليه الصليبيون أن يتركوا حامية عسكرية لهم قرب القاهرة، فوافق مذعنًا. كانت تلك الحامية شوكة نافذة في خصر مصر، وقامت بدورٍ خطيرٍ في التجسس على أحوال القاهرة ودفاعاتها، بجانب ما ضمنه وجودها للصليبيين من استمرار ابتزازهم المادي للوزير شاور، والذي كان يتصرف في شئون البلاد دون الرجوع إلى الخليفة الفاطمي العاضد، استمرارًا لمسلسل هيمنة وزراء مصر على المقاليد، وترك الخلافة الاسمية للفاطميين منذ حوالي قرن من الزمان.
كانت الجولة الأولى من الصراع النوري-الصليبيي على مصر قبل ثلاث سنواتٍ من الثانية، عندما استنجد شاور بنور الدين لينصره على خصمه ضرغام الذي انتزع منه الوزارة. حينها أرسل نور الدين – الطامح إلى ضم مصر إلى دولته، للإطباق على الصليبيين من فوقهم ومن أسفل منهم- جيشَ شيركوه وابن أخيه صلاح الدين دعمًا لشاور، مقابل أن يسمح لهم بالبقاء بمصر، وأن تحصل دولة نور الدين على ثلث خراج مصر.
أخلّ شاور باتفاقه مع نور الدين بعد الانتصار، ورفض بقاء جيش شيركوه بمصر، أو دفع الخراج المتفق عليه، وكانت ثالثة الأثافي إرساله لأمالريك ملك القدس الصليبي، يستنصر به ضد شيركوه، ليحاصر الصليبيون جيشَ نور الدين في مدينة بلبيس شرق القاهرة لثمانية أشهر، قبل أن يتفق الطرفان على التعادل السلبي، ورحيل كليهما من مصر، بعد أن بلغ ملك الصليبيين الأنباءُ عن توغل نور الدين في بلاده، وإلحاقه هزيمة ساحقة بالصليبيين في موقعة حارم.
أما الجولة الثالثة الحاسمة، فكانت في عام 564 هـ (1169م)، وكانت المبادرة هذه المرة من ملك القدس أمالريك، والذي اقتحم مصر بجيشٍ كبير، بعد أن أبلغته الحامية الصليبيية قرب القاهرة بما عليه البلاد وجيشها من ضعفٍ شديد يسهِّل الاستيلاء عليها. أمر شاور المرتعد من خيانة حلفائه، بترحيل مئات الآلاف من الناس من العاصمة الشعبية، والتي كانت تسمى «مصر» – كانت القاهرة آنذاك بالأساس عاصمة إدارية، بها الدواوين وقصور الخلفاء، وكبار رجال الدولة- والتي انصهرت فيها عواصم مصر الإسلامية السابقة كالفسطاط والقطائع والعسكر. ولكي لا يستفيد الصليبيون بما فيها من أقواتٍ وإمدادات، أمر شاور بإحراق مصر وما فيها! لتظل النيران تلتهمها أكثر من 50 يومًا.
لم يجسر شاور على الاستنجاد بنور الدين هذه المرة، بينما فعلها الخليفة العاضد، والذي أرسل صريخه إلى الملك العادل، حاملًا ضفائر أميرات البيت الفاطمي، ليستثير نخوته، فلم يتأخر الرجل في استغلال الفرصه، في إرسال نائبه لشئون غزو مصر، أسد الدين شيركوه، وابن أخيه صلاح الدين، صحبة آلاف الفرسان لاستنقاذ مصر، وكانت «الثالثة ثابتة» كما يذكر المثل المصري الشهير.
«أين استدعائي الغز من المسلمين لنصرة الإسلام من استدعائك الفرنج للإعانة على المسلمين؟ رضيت أن تكون مصر إسلامية، وأكون فداء المسلمين». *العاضد ردًّا على وزيره شاور، عندما عاتبه في استنجاده بنور الدين محمود
وقف الجيش الصليبي عاجزًا أمام أسوار القاهرة، وقد بدأت معنوياته في الانهيار مع وصول أخبار اقتراب نجدة نور الدين. استغل شاور الموقف، وراسل أمالريك ملاطفًا، موعزًا إليه أنه يريد تسليم البلد لأصدقائه الصليبيين، لكن رفض العاضد، وجماهير الناس، حال دون هذا، ودفع مبلغًا كبيرًا من المال لأمالريك مقابل رحيله قبل قدوم جيش نور الدين، فوافق ملك القدس، للحفاظ على أي مكسبٍ من الحملة.
وصل جيش شيركوه إلى مصر -وكان الأكبر مقارنةً بالجولات السابقة- بعد قفول الصليبيين إلى الأراضي المحتلة، فاستبشر به المصريون كثيرًا، خصوصًا وأن شاور رغم مصاب حريق مصر، أرهق الناس بالضرائب لتعويض ما دفعه للصليبيين. أحسن العاضد استقبال شيركوه وقادة جيشه، وأغدق عليهم العطايا والتكريمات، في مكايدة واضحة منه لشاور، الذي استأثر دونه كثيرًا بالتصرف في شئون مصر.
شاور.. الدم الأول
يذكر ابن كثير في «البداية والنهاية»، أن الخليفة العاضد جاء متنكرًا إلى معسكر أسد الدين شيركوه، بعد أيامٍ من استقباله وتكريمه عشية الوصول من الشام لنجدة مصر. في ذلك الاجتماع السري الخطير، أوعز العاضد إلى أسد الدين بالتخلص من الوزير سيئ السمعة شاور، والذي حوَّل مصر إلى ساحة من الفتن لأكثر من خمس سنوات، كادت تسقط فيها تحت الاحتلال الصليبي.
لم يمضِ وقتٌ قليل، حتى وجَّه شاور دعوةً لأسد الدين، وكبار قادة جيشه، لحضور وليمة كبرى أعدَّها على شرفهم. تردّد أسد الدين في قبول الدعوة، بناءً على تحذير من أعوانه من أن يكون في الأمر مكيدة، بينما تذكر روايات أخرى أن أحد أعوان شاور أو أبنائه، هو من حذّر الشاميين سرًّا من أن شاور ينوي تسميمهم، أو اعتقالهم أثناء الوليمة. كان هذا الأمر بمثابة الإذن بحلول أوان مصير شاور المحتوم.
قرَّر صلاح الدين وبعض الأمراء الشاميين، أن يظفروا بشاور، قبل أن يظفر بهم. وبالفعل استغلوا قدوم شاور إلى معسكرهم خارج القاهرة، يريد لقاء أسد الدين، الذي كان غائبًا، يزور قبر الإمام الشافعي، فأحاطوا بشاور، وبحراسه، وقتلوا جميعًا، ثم تتبَّع العسكر الشامي كبار أعوان شاور، وأبنائه، في الأيام التالية، ونالوا مصير شاور نفس. دخل أسد الدين بالجيش إلى القاهرة، وأباح لأهلها قصور شاور وأملاكه، فأعمل الناس فيها السلب والنهب.
قلَّد العاضدُ أسدَ الدين الوزارة خلفًا لشاور، ولقّبه بـ«أمير الجيوش»، وأرسل إلى نور الدين يسترضيه، ويعلمه باختياره أسد الدين شيركوه وزيرًا لمصر، فقبل نور الدين ذلك ظاهريًا، بينما توجَّس في قرارة نفسه من استقطاب الخليفة الفاطمي لقادة جيشه، وهو – نور الدين- الذي يكرِّس ولاءه للخليفة العباسي ببغداد.
كان أول قرار اتخذه أسد الدين، هو إعادة إعمار مدينة «مصر» التي خربَّها الحريق الذي أمر به شاور، وتعهَّد بإعادتها أفضل مما كانت، فاستبشر المصريون كثيرًا بالعهد الجديد. ثم أخذ أسد الدين يمكِّن رجاله سريعًا من المفاصل المهمة للدولة، دون صدامٍ مع أعيان الدولة الفاطمية وكبار رجالها.
الوزير صلاح الدين الأيوبي.. رجل الأقدار على موعد مع ملك مصر
لم يلبث أسد الدين في منصبه سوى شهرين، إذ توفي فجأةً وهو في عنفوان مجده. اختلفت آراء العاضد وحاشيته فيما يجدر فعله إزاء الوفاة المفاجئة لأسد الدين. رأى المتحفظون ألا يعين الخليفة وزيرًا، فيستأثر دونه بالسلطان، وأن يجعل محافظة الشرقية إقطاعًا للعسكر الشامي، ليكون حاجز صد أمام الغزو الصليبي، بينما رأى الآخرون، أن يقوم العاضد بتولية منصب الوزارة إلى صلاح الدين، ابن أخي أسد الدين؛ لأنهم كانوا يظنونه أضعف من عمه كثيرًا، فيسهل السيطرة عليه من العاضد، واتُّفِقَ على الرأي الثاني، خاصة مع ميل العاضد -إنسانيًّا- لصلاح الدين، إذ توطدت صداقتهما كثيرًا بمرور الوقت.
كرَّم العاضد وزيرَه الجديد، وأنعم عليه باللقب الشهير الذي يعرفه به الجميع إلى الآن: «الناصر صلاح الدين». غضب كبار الأمراء الشاميين لتقديم العاضد صلاحَ الدين عليهم، وفيهم من هو أسنُّ منه، وأقدم في الخدمة، حتى رحل بعضهم إلى الشام ساخطًا. عندما وصل كبير هؤلاء إلى الشام، وكان اسمه عين الدولة الياروقي، عاتبه نور الدين عتابًا شديدًا – رغم توجس الأخير من تسلطن رجاله الأيوبيين بمصر- لأن رحيله بقطعة من الجند، يضعف موقف صلاح الدين ومن معه، المحاطين بفلول العهد السابق، ومراكز القوى، داخليًّا، وتربُص صليبيي بيت المقدس، الذين تعصف بهم أطماعٌ لا تنتهي بانتزاع مصر التي غلبهُم جيش نور الدين عليها.
«ليس في الجماعة أضعف، ولا أصغر سنًا من يوسف، والرأيُ أن يولَّى، فإنه لا يخرج من تحت حكمنا، ثم نضع على العساكر من يستميلهم إلينا، فيصير عندنا من الجنود من نمنع به البلاد، ثم نأخذ يوسف أو نخرجه». *أصحاب مشورة الخليفة العاضد، ينصحونه بتقليد صلاح الدين الأيوبي الوزارة
ولإرضاء الملك العادل نور الدين محمود، صار يُدعى له على منابر الجمعة في كافة الأرجاء بعد الخليفة العاضد. ولتعزيز وضعه السياسي والعسكري في مصر، لحق معظم قادة الأسرة الأيوبية بصلاح الدين، بعد استئذان نور الدين، والذي وافق على مضض تغليبًا للمصلحة الكبرى المتمثلة في تثبيت الحكم الجديد بمصر، على مخاوفه من استئثار الأيوبيين دونَه بمصر. وكان على رأس هؤلاء الأيوبيين، والد صلاح الدين، نجم الدين أيوب، والذي كان بمثابة المستشار السياسي الأول لنور الدين، وأخوه شمس الدولة توران شاه، والذي كان قائدًا عسكريًّا صلبًا، سيلعب أدوارًا كبرى في تعزيز سطوة صلاح الدين بمصر.
تقرّب صلاح الدين من عامة المصريين، وأغدق عليهم العطايا من خزائن عمه أسد الدين، وخزائن العاضد، وثبَّت رجاله في المناصب المهمة في الدولة، وأنعم عليهم بالإقطاعات، بينما اقتطع بعض الممتلكات الهائلة لرجال الدولة السابقة، وردها إلى بيت المال، فحاز رضا الكثير من عوام المصريين، لكنه أثار حفيظة كبار الحاشية الفاطمية، لتبدأ مرحلة خطيرة من الصراع على عرش مصر.
دماءٌ غزيرة وحسم دموي
كان العسكر المصري، في أواخر العهد الفاطمي مكوَّنًا من طوائف شتى، منهم الأتراك، والمغاربة، والأرمن، والعبيد السودان، وكان للطائفتين الأخريين وجود مكثف في القاهرة، خاصة العبيد السودان، والذين كانوا موكلين أيضًا بخدمة قصور الخلافة، وأملاكها، وإقطاعاتها، وكان لهم خارج كل الحواضر المصرية الكبرى، محلَّة كبرى يقيمون فيها بعائلاتهم، وكانت محلَّتُهم خارج القاهرة تسمى «المنصورة».
كان للمقدمين على السودان نفوذ بارز، وكان من أخطرهم آنذاك كبير أساتذة القصر، وكان يُسمَّى «مؤتمن الخلافة»، والذي عظُم عليه تضاؤل نفوذه في العصر الجديد، فدبَّر مؤامرة كبرى للانقلاب على صلاح الدين، لا يُعلَم على وجه الدقة مدى تورُّط الخليفة العاضد فيها. كانت الخطة تقتضي مراسلة الصليبيين ليقوموا بغزو مصر، ومن ثمَّ يخرج لهم صلاح الدين بالجيش، فيحرك المؤتمن رجالَه للثورة في الصعيد والقاهرة.
كان لقوة ملاحظة أحد جنود استطلاع جيش صلاح الدين الفضل في كشف تلك المؤامرة؛ إذ شكَّ في أحد الخدم المسافرين خارج بلبيس، بملابس رثَّة، إذ كان بحوزته نعليْن جديديْن، كما بدا عليه الاضطراب عندما رأى جند صلاح الدين. بتفتيش النعليْن، عُثر على الرسالة الموجهة من المؤتمن للصليبيين! وتوصَّلت التحقيقات إلى من نسخها، ومنه توصلوا إلى صاحب المؤامرة. بلغت الأخبار المؤتمَن، فتحصَّن في القصر أيامًا، فلمَّا وجد صلاح الدين لم يبادر بعداوته، ظنَّه عاجزًا، وغادر القصر إلى أحد مزارعه بنيل قليوب، فكبسه جند صلاح الدين، وقتلوه.
لما ترامت الأنباء إلى العبيد السودان،حملوا السلاح، وثار عشرات الآلاف منهم بشوارع القاهرة، يعملون فيها السلب والنهب والفوضى، وانضمَّ إليهم بعض الأمراء الفاطميين الساخطين، وبعض عامة المصريين الموالين للفاطميين، كما انحاز إليهم الأرمن، الذين كانوا رماة مهرة، سببوا خسائر فادحة لقوات صلاح الدين، والذي بادر جيشه بالتعبئة الكاملة للتصدي للثائرين، وعلى رأس الجيش توران شاه بن أيوب.
على مدى يومين من المعارك الضارية، والتي تركزَّت في شارع بين القصرين الرئيسي في القاهرة، والذي يضم قصور الخلافة، ومقار الحكم الحيوية، كانت الكفة تميل إلى الثائرين. كان العاضد يراقب المعركة من إحدى شرفات القصر، وكان أخشى ما يخشاه الأيوبيون أن ينحاز الخليفة إلى الثائرين مانحًا لهم الشرعية. ثم حدث أن رُمِيَ جيش صلاح الدين من جهة قصر الخليفة، فأمر توران شاه النفاطون – وحدات خاصة بإلقاء القذائف الحارقة- بالتصويب تجاه شرفة الخليفة، فخرج إليهم أحد أساتذة القصر ينقل دعم العاضد لصلاح الدين، وأنه يريد إبادة العبيد السودان! فتحمّس جند صلاح الدين، وانخذل العبيد لهذا التحول المفاجيء.
وكانت الطامة الكبرى على العبيد، عندما اتخذ صلاح الدين قرارًا صارمًا، بإحراق محلتهم خارج القاهرة، فترك أكثرهم القتال في بين القصرين، وخرجوا لنجدة أهاليهم ودورهم، فتتبعهم توران شاه بالجيش، وقتل منهم آلافًا مؤلفة، ودمَّر كل محلاتهم بطول مصر وعرضها، وتتبَّع فلولهم حتى الصعيد، ولم يسكن حتى قضى عليهم قضاءً مبرَما. وأوكل صلاح الدين خدمة قصور الخلافة إلى رجله القوى بهاء الدين قراقوش، الذي فرض قبضة حديدية عليها. كما أُحرق دار الأرمن بشارع بين القصرين، وقتل الرماة الأرمن جميعًا.
خرج صلاح الدين من تلك الفتنة العارمة أقوى كثيرًا مما كان، وأفسد رهانات الحاشية الفاطمية على حداثة سنه، ورقة طباعه، وأظهر وجهًا مغايرًا للمألوف عنه، وأصبح الرجل الأقوى بمصر، والمتصرف الأول والأخير بشئونها. لكن لم تنتهِ معركة السيطرة على عرش مصر بعد.
محو الآثار الفاطمية بمصر
مطلع العام التالي 565 هـ (1170م)، داهمت حملة صليبية ضخمة مدينة دمياط المصرية، كانت تضم بجانب قوات صليبيي الشام، إمدادات جللت من أوروبا، من صقلية وسواها، كما حصلوا على بعض الدعم من البيزنطيين، رغم الخلافات العقائدية والسياسية بين الطرفين. كان هدف الغزاة هو الاستيلاء على ثغر دمياط، ومنه عبر النيل إلى القاهرة.
لم يجسِر صلاح الدين على مغادرة القاهرة المتقلَّبة لمواجهة الغزو بنفسه، فأرسل جيشًا كبيرًا بقيادة ابن أخيه تقي الدين عمر، وراسل نور الدين بالشام يستنجده ضد الصليبيين، ويشرح له عدم استقرار الأوضاع بمصر بعد، فأرسل نور الدين إمداداتٍ تترى إلى مصر، كما ضغط على الصليبيين عسكريًّا بالشام. كما فتح العاضد الفاطمي خزائنه لتمويل العساكر المدافعة عن مصر.
«إني لأستحي من الله أن يراني متبسِّمًا، والمسلمون يحاصرهم الْفِرِنْجُ بِثَغْرِ دِمْيَاطَ». *نور الدين محمود
ثبث أهل دمياط والجيش أمام الحصار الشديد الذي فرضه الصليبيون، على مدار شهرين. بتطاول الحصار دون مكاسب، وبتصاعد الخسائر البشرية والمادية، دبَّت الخلافات بين الغزاة، كما تسببت تقلبات الجو في غرق العديد من سفنهم، فبدأوا في الانسحاب، وأقيمت الاحتفالات في كافة أرجاء مصر، وتعزَّزت شرعية صلاح الدين الأيوبي وشعبيته بمصر بعد هذا الانتصار العظيم، وتبادل نور الدين والعاضد مكاتبات التهنئة بهذا النصر الفريد، والذي برز التناغم الاستثنائي بين خلافتي بغداد العباسية – لها ولاء نور الدين- وخلافة مصر الفاطمية.
وفي العام التالي، غزا صلاح الدين جنوب فلسطين حتى عسقلان، غزوةً خاطفةً، عقابًا للصليبيين على محاولتهم لاحتلال مصر، واستولى على ميناء الأيلة – العقبة حاليًا- بعد غزوه برًا وبحرًا.
تدريجيًا، وبحذرٍ بالغ، بدأ صلاح الدين – السني الموالي لخلافة بغداد العباسية- في محو آثار الوجود الشيعي الفاطمي بمصر، والذي استمرَّ قرابة 200 عام، بما يحمله هذا من أبعادٍ دينية وثقافية، وكذلك من أبعاد سياسية تتعلق بترسيخ جذور ملكه في التربة المصرية. كانت البداية أواخر عام 565م، بإلغاء الأذان الشيعي «حي على خير العمل، وعلى خير البشر»، وبإضافة الترضي على الخلفاء الراشدين الأربعة جميعًا في خطبة الجمعة. ثم الاقتصاد في الدعاء للعاضد على جملة «اللهم أصلح العاضد لدينك».
في العام التالي 566م، أمر صلاح الدين بإنشاء مدرستيْن لتدريس الفقه السني المالكي والشافعي، وقام بخطوةٍ أكثر جرأة، عندما عزل كافة القضاة من الشيعة الإسماعيلية، واستبدل بهم قضاةً جلَّهم من الشافعية، وجعل قاضي قضاة مصر صدر الدين بن درباس الشافعي. تزامنت تلك القرارات، مع قراراتٍ أخرى بإسقاط كافة المكوس الزائدة والضرائب الباهظة عن كاهل المصريين، مما عزَّز من تأييد معظمهم لصلاح الدين، وكافة قراراته. أعان على هذا، أن غالبية مسلمي مصر لم يتبنوا المذهب الشيعي الإسماعيلي رغم طول العهد الفاطمي، وتخصيص آلاف الدعاة لتلك المهمة، وظلَّ أكثرهم على مذهب الإمام الشافعي.
ثم تبارى كبار الأمراء الأيوبيين، وأعيان مصر من أصحاب الولاء للعهد الجديد، في إنشاء المدارس السنية. كما أمر صلاح الدين بالقبض على أمراء الدولة الفاطمية ممن لم يظهروا الولاء، ومصادرة أموالهم، رغم اعتراض العاضد على ذلك. وفي مراحل لاحقة، أغلق الجامع الأزهر، الذي كان معقل للدعوة الفاطمية الشيعية. وفي عام 567 هـ (1171م)، صدر أخيرًا الأمر النهائي بقطع الخطبة عن العاضد الفاطمي، والدعاء للخليفة العباسي المستضيء بالله على منابر الجمعة المصرية، لكن بدأ ذلك بحذر في أحد جوامع القاهرة، فلما نجح الأمر دون أدنى معارضة، عممه. ولم يلبث الخليفة الفاطمي المعزول إلا قليلًا حتى وافته المنية.
الشقاق يدب بين صلاح الدين الأيوبي ونور الدين محمود
لم يكن نور الدين محمود راضيًا تمام الرضا عن انفراد صلاح الدين بحكم مصر، خاصة بعد وفود أهله من بني أيوب عليه، وأخذ صلاح الدين في توسيع رقعة المملكة المصرية، بضم برقة غربًا، والنوبة واليمن جنوبًا. كانت حاشية نور الدين، خاصة الأمراء الذين غادروا مصر اعتراضًا على تولية صلاح الدين الوزارة، لا يكفون عن تأليب الملك العادل ضد صلاح الدين، ويحرضونه على أن ينتزع منه مصر، ولو بالقوة قبل أن يستفحل أمره فيها.
كان نور الدين بالفعل متوجسًا من الاستقلال الفعلي لصلاح الدين بمصر، لكنجهاد الصليبيين كان هو شغله الشاغل، فلم يسمح للأمور أن تتدهور إلى الصدام مع صلاح الدين؛ لأن هذا كفيل بتدمير كافة المنجزات التوحيدية والعسكرية، التي كافح العادل نور الدين من أجلها على مدار 20 عامًا، وما سبقها من جهود أبيه المجاهد عماد الدين زنكي.
على الجانب الآخر، فبرغم ما كان ظاهرًا من استقلال صلاح الدين بحكم مصر وشئونها، فإنه كان حريصًا على تسكين خواطر نور الدين ما أمكن، فكان يرسل جزءًا من خراج مصر إلى خزائن الشام، ويلاطف الملك العادل برسائل الولاء والتأييد.
لكن نور الدين كان يلح في قطع دعاء الخطبة للعاضد الفاطمي رمز الخلافة الشيعية الفاطمية، والدعوة للخليفة العباسي المستنجد، رمز الخلافة السنية. ولعل بجانب القيمة الدينية لتلك الخطوة، كان نور الدين يعدها بمثابة بالون اختبار لولاء صلاح الدين له، لكن الأخير كان يلح في الاعتذار، بحجة اضطراب الأوضاع بمصر، وأنه ما زال للفاطميين آلاف الأنصار الذين ستثيرهم مثل تلك الخطوة. وماطل شهورًا وسنوات قبل أن يستتب له الأمر بالقدر الكافي للقيام بتلك الخطوة البارزة. وكان للعلاقة الإنسانية بين صلاح الدين والعاضد دور في تردد صلاح الدين في حسم هذا الأمر، خاصة مع مرض العاضد الشديد.
تصاعد النفور بين نور الدين وصلاح الدين عام 567 هـ (1171م)، عندما خرج صلاح الدين لغزو الصليبيين جنوبي فلسطين، ثم عاد سريعًا إلى مصر، قبل أن يقابل نور الدين، والذي استغلَّ الفرصة ليغزو الصليبيين أيضًا. خشي صلاح الدين إن قابله نور الدين أن يعزله عن مصر، ويرسل غيره من الأمراء ممن لا يعرفهم أهل مصر، فينتقض كل ما بناه. غضب نور الدين، ولم يقبل أعذار صلاح الدين، وبدأت الأنباء تترامى عن أن نور الدين قد يتجهز لانتزاع مصر بنفسه من صلاح الدين.
في مجلس المشورة العاجلة بالقاهرة، أكد الوالد نجم الدين أيوب على ولاء الجميع لنور الدين، وأنهم رجاله وخواصه، وأهان بعض الأمراء الأيوبيين المتحمسين الذي أكدوا استعدادهم لصد غزو نور الدين عسكريًّا، ثم نصح نجم الدين أيوب ابنَه صلاح الدين بدرء الفتنة الكارثية، وإرسال رسالة مؤثرة إلى نور الدين، يخبره فيها أنه لا حاجة له بتجهيز جيش لغزو مصر، إنما يرسل أحد رجاله فقط، ليحمله – صلاح الدين- إلى مولاه فيتصرف به كما شاء.
بالفعل انصرف نور الدين عن غزو مصر. لكن صلاح الدين آثر، بنصيحة بعض أهله وخواصه، ضم النوبة واليمن إلى دولته في العام التالي، بحجة توسيع مساحة الولاء للخلافة العباسية، بينما كان يريد في الحقيقة أن يكون أحد هذيْن البلديْن البعيدين معقلًا يحتمي به، إن تطورت الأمور سلبًا، وغزا نور الدين مصر.
لم يمضِ عامان حتى أعانت الأقدار صلاحَ الدين على حسم هذا التحدي الخطير لملكه في مصر، فتوفي الملك العادل نور الدين بدمشق عام 569 هـ (1174م)، واستقرَّ صلاح الدين على عرش مصر، ومنها انطلق إلى توحيد ما تفرق من الشام بعد وفاة نور الدين، ليستعد بعد سنواتٍ إلى الوثبة التاريخية الكبرى إلى قلب فلسطين لتحرير بيت المقدس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يرجى التكرم بالالتزام بقواعد حرية الراي وحقوق النشر