حكاية التوراة وصوت الآثار المُهمل
احتلال فلسطين وقتل وتهجير أبنائها قائم على حكاية توراتية وضع المؤرخون والمفسرون أرض فلسطين مسرحا لها، بالرغم من أن آثار فلسطين تروي حكاية أخرى، إلا أن صوت الآثار تم إخراسه وعلا صوت الحكاية.
تقول الحكاية في التوراة أن إبرام (إبراهيم) رحل مع زوجته وابن أخيه لوط بحدود 1900 ق.م من أور (العراق) إلى أرض كنعان (فلسطين)، فذهبوا أولا إلى حاران (في تركيا) ثم رحلوا إلى أرض كنعان مرورا بدمشق (سوريا) وأقاموا في شكيم ثم بيت إيل ومنها إلى أرض الجنوب ثم إلى مصر (جمهورية مصر العربية) ثم عادوا إلى أرض الجنوب وكان مع إبراهيم ولوط غنم وبقر وحمير وعبيد واماء واتن وجمال، وبعد مخاصمة بين رعاة مواشي أبرام ورعاة موشي لوط (سفر التكورين 13) رحل لوط إلى دائرة الأردن وبقي إبراهيم في أرض كنعان حيث: قَالَ الرَّبُّ لأَبْرَامَ، بَعْدَ اعْتِزَالِ لُوطٍ عَنْهُ: «ارْفَعْ عَيْنَيْكَ وَانْظُرْ مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ شِمَالاً وَجَنُوبًا وَشَرْقًا وَغَرْبًا، لأَنَّ جَمِيعَ الأَرْضِ الَّتِي أَنْتَ تَرَى لَكَ أُعْطِيهَا وَلِنَسْلِكَ إِلَى الأَبَدِ. (سفر التكوين 13).
المشكلة في هذه القصة ليس فقط في خط الرحلة الطويل والغريب من أور في العراق إلى الأرض الموعودة في فلسطين مرورا بتركيا وسوريا ومصر، لكن المشكلة تكمن في ما كشف عنه عالما الآثار الإسرائيليان إيريز بن يوسف وليدار سابرهن من جامعة تل أبيب بأن الجمال التي تتم تربيتها لم تدخل فلسطين قبل 930 ق.م (المصدر من مقال على ناشيونال جيوغرافيك) بل ذهب نيل سيلبرمان وإسرائيل فنكلشتاين في كتابهما التوراة اليهودية مكشوفة على حقيقتها إلى أن التنقيب في تل جمة في الساحل الفلسطيني كشف عن زيادة مثيرة في عدد عظام الجمال في القرن 7 ق.م، فكيف يمكن قبول إسقاط القصة التوراتية على المنطقة رغم أن نتائج التنقيبات تثبت عكس ذلك تماما.
تل جمة قرب دير البلح |
وتستمر الحكاية التوراتية فيعيش إبراهيم وولداه إسماعيل واسحاق في أرض كنعان، ثم صرف إبراهيم بناء على طلب من زوجته سراي (سارة) اسماعيل وأمه هاجر المصرية إلى برية بئر السبع (سفر التكوين 21) وبقي اسحق وأمه سراي في أرض كنعان، وأنجب اسحق يعقوب، الذي ذهب إلى فدان أرام وتزوج فيها ابنتي خاله لابان وأثناء عودته من فدان أرام إلى أرض كنعان "صَارَعَهُ إِنْسَانٌ حَتَّى طُلُوعِ الْفَجْرِ. وَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، ضَرَبَ حُقَّ فَخْذِهِ، فَانْخَلَعَ حُقُّ فَخْذِ يَعْقُوبَ فِي مُصَارَعَتِهِ مَعَهُ. وَقَالَ: " أَطْلِقْنِي، لأَنَّهُ قَدْ طَلَعَ الْفَجْرُ». فَقَالَ: «لاَ أُطْلِقُكَ إِنْ لَمْ تُبَارِكْنِي». فَقَالَ لَهُ: «مَا اسْمُكَ؟» فَقَالَ: «يَعْقُوبُ». فَقَالَ: «لاَ يُدْعَى اسْمُكَ فِي مَا بَعْدُ يَعْقُوبَ بَلْ إِسْرَائِيلَ، لأَنَّكَ جَاهَدْتَ مَعَ اللهِ وَالنَّاسِ وَقَدَرْت" (سفر التكوين 34) ثم سكن يعقوب في أرض شكيم (نابلس) من أرض كنعان.
وكان ليعقوب ثلاثة عشر ابنا أحدى عشر من زوجة يكرهها إسمها ليئة ابنة ابن خاله لابان واثنان من أختها راحيل التي كان يحبها، وهما يوسف وبنيامين. ووتقول الحكاية أن يعقوب كان يفضّل يوسف على بقية أبنائه مما أشعل نار الغيرة في قلوب إخوته غير الأشقاء فألقوه في بئر فسحبه رجال مديانيون وباعوه للإسماعيليين بعشرين فضة، فأتوا بيوسف إلى مصر. (سفر التكوين 37)، وبعد حبسه وبسبب تفسيره لحلم فرعون، قام بإخراجه من السجن وجَعَله على كل أرض مصر وكان ذلك بحسب مؤرخي التوراة بحدود سنة 1700 ق.م. في أثناء ذلك قام يوسف باستقدام أهله من بئر السبع من أرض كنعان ليعيشوا في أرض جاسان من أرض مصر (سفر التكوين 46)
رغم جمالية القصة واحتواءها على عوامل الإثارة والإلهام والمتعة لكن علماء الآثار الذين تناولوا تاريخ "بلاد جمهورية مصر" يعرفون تمام المعرفة أن لقب فرعون لم يظهر ولا حتى مرة واحدة في كل آثارها، و لم يرد إسم يوسف أبدا في كل سجلاتها التي دونت أسماء معظم حكامها، فكيف يهمل مدونو التاريخ القبطي – المصري تدوين أسماء أبطال قصة عظيمة مثل قصة يوسف؟
ثم تسرد التوراة في سفر الخروج كيف توالد بنو إسرائيل وزاد عددهم في مصر وامتلأت الأرض منهم، فخاف ملك البلاد من كثرتهم فقرر أن يستعبدهم، ويقتل أبناءهم لكن لحسن حظه نجى موسى ولما صار شابا قتل رجلا مصريا وفرّ إلى مديان وقضى سنوات هناك يرعى غنم حثرون كاهن مديان، حتى كلمه الرب يهو "وقال الرب لموسى في مديان إذهب ارجع الى مصر لأنه قد مات جميع القوم الذين كانوا يطلبون نفسك" (سفر الخروج 4)، فذهب موسى برفقة أخيه هارون إلى فرعون " وقالا لفرعون هكذا يقول الرب إله إسرائيل أطلق شعبي ليعيّدوا لي في البرية" (الخروج 5)، وبعد رفض هذا الطلب مرات عديدة، قاد موسى خروجا جماعيا من رعمسيس لأكثر من ست مائة ألف رجل من بني إسرائيل ومعهم غنم وبقر ومواش كثيرة متجهين إلى جبل حوريب.
هذه القصة حيّرت علماء الآثار، لإن إسقاط هذه القصة على جغرافيا مصر وفلسطين يعدّ مستحيلا، فعلى سبيل المثال كيف يمكن أن ينزح أكثر من نصف مليون إنسان في ظل وجود حامية عسكرية كالتي تم الكشف عنها في تل حبوة في القنطرة شرق السويس والتي قدّر علماء الآثار أنها كانت تتسع لخمسين ألف جندي؟
الحامية العسكرية في تل حبوة في الإسماعيلية شرق السويس |
ومن جهة ثانية فقد أكد باحث الآثار الإسرائيلي في جامعة تل أبيب إسرائيل فنكلشتاين أن عين القديرات الواقعة شرق سيناء والتي تم اعتبارها عين مشفاط (قادش) التي وردت في التوراة في قصة الخروج، سُكنت لأول مرة في القرن السابع قبل الميلاد وليس قبله، فإن لم يُقِم بنو إسرائيل في عين القديرات في سيناء عند خروجهم من مصر، فأين أقاموا أو بالأحرى من أين خرجوا ليعيّدوا للرب يهو في البرية؟
ولو افترضنا أنهم خرجوا من مصر وأقاموا في أماكن أخرى غير عين القديرات وأنهم تمكنوا من تجاوز وخداع كل الحاميات العسكرية فإلى أين يمكنهم أن يذهبوا طالما أن عمليات التنقيب كشفت عن وجود حاميات عسكرية في بيسان ويافا ودير البلح في فلسطين، كما كشفت عمليات التنقيب عن وجود عشرات التوابيت الطينية الشبيهة بالتوابيت المصرية في دير البلح وبيسان وتل دوير جنوب غرب القدس، والتي يؤكد علماء الآثار أنها كانت مقاطعة إدارية تابعة للدولة في مصر وكانت عاصمتها في غزة. فكيف حدث الخروج ومن أين وإلى أين؟
وثم تروي التوراة في سفر صاموئيل أحداث معركة تدور بين الفلسطينيين والإسرائيليين:
" وَجَمَعَ الْفِلِسْطِينِيُّونَ جُيُوشَهُمْ لِلْحَرْبِ، فَاجْتَمَعُوا فِي سُوكُوهَ الَّتِي لِيَهُوذَا، وَنَزَلُوا بَيْنَ سُوكُوهَ وَعَزِيقَةَ فِي أَفَسِ دَمِّيمَ.2 وَاجْتَمَعَ شَاوُلُ وَرِجَالُ إِسْرَائِيلَ وَنَزَلُوا فِي وَادِي الْبُطْمِ، وَاصْطَفُّوا لِلْحَرْبِ لِلِقَاءِ الْفِلِسْطِينِيِّينَ.3 وَكَانَ الْفِلِسْطِينِيُّونَ وُقُوفًا عَلَى جَبَل مِنْ هُنَا، وَإِسْرَائِيلُ وُقُوفًا عَلَى جَبَل مِنْ هُنَاكَ، وَالْوَادِي بَيْنَهُمْ.4 فَخَرَجَ رَجُلٌ مُبَارِزٌ مِنْ جُيُوشِ الْفِلِسْطِينِيِّينَ اسْمُهُ جُلْيَاتُ، مِنْ جَتَّ، طُولُهُ سِتُّ أَذْرُعٍ وَشِبْرٌ"
فلم يجرأ أحد من بني إسرائيل على الخروج لمبارزة العملاق الفلسطيني، حتى خرج له شاب إسمه داود وصرع الفلسطيني بمقلاع.
الموقع الذي افترضه مفسرو التوراة لمعركة الإسرائيليين والفلسطنيين بين بيت لحم وعسقلان |
بحسب مفسري ومؤرخي التوراة تدور أحداث هذه المعركة بين الإسرائيليين والعمالقة الفلسطينيين الأجلاف في وادي السنط غرب بيت لحم وشرق عسقلان، لكن آثار المنطقة ترسم صورة مختلف عن الصورة التي ترسمها الحكاية، ففي 2013 عثرت فرق التنقيب في عسقلان عن مقبرة بها 211 رفاة يعود تاريخها للفترة الواقعة بين القرنين 11 و8 ق.م، أي تماما في الفترة التي وقعت فيها معركة وادي البطم بين الإسرائيليين والفلسطينيين في التوراة. واللافت للانتباه في الهياكل العظمية التي عُثر عليها في هذه المقبرة أنها كلها بأحجام عادية ، أي أن الفلسطينيين الذين كانوا يقطنون هذه المنطقة لم يكونوا عمالقة، وليس ذلك فقط، فقد احتوت القبور على قوارير عطور وحُلِيّ وأقراط وخواتم وأساور وأشياء أخرى تؤكد اهتمام الفلسطينيين بالذوق والأزياء وكل ما يتعلق بالجمال والأناقة فكيف
يكون هؤلاء الناس أجلافا؟
يكون هؤلاء الناس أجلافا؟
هيكل عظمي لفلسطيني في مقبرة عسقلان |
أواني العطور في مقبرة عسقلان |
ثم تنقل القصة التوراتية أخبار مملكة عظيمة قامت في المنطقة بين 1050 و930 ق.م حكمها شاول وداود ومن بعده إبنه سليمان الذي اتخذ من القدس عاصمة له وبنى الهيكل فيها.
صورة متخيلة لهيكل سليمان في أورشليم |
في سفر أخبار الأيام الثاني يقول النص عن عظمة ملك سليمان: " وَجَعَلَ الْمَلِكُ الْفِضَّةَ وَالذَّهَبَ فِي أُورُشَلِيمَ مِثْلَ الْحِجَارَةِ"
وفي سفر الملوك الأول يقول النص عن حريم سليمان: " وَكَانَتْ لَهُ سَبْعُ مِئَةٍ مِنَ النِّسَاءِ السَّيِّدَاتِ، وَثَلاَثُ مِئَةٍ مِنَ السَّرَارِيِّ، فَأَمَالَتْ نِسَاؤُهُ قَلْبَهُ."
يقول إسرائيل فنكلشتاين ونيل سيلبرمان عن هذه الثروة الخيالية: "هي تفاصيل أكثر مبالغة من أن تكون حقيقة فعلا"، ثم يضيفان بشكل يثير تساؤلا منطقيا: "لا يوجد لداود ولا لسليمان أي ذكر في أي نص تاريخي واحد مصري، أو ما بين النهرين"
فشلت كل التنقيبات في العثور على أثر واحد لهيكل سليمان في القدس، ورجح فنكلشتاين سبب هذا الفشل لأن القدس قبل القرن 7 ق.م لم تكن أكثر من قرية صغيرة ولم تكن بأي حال من الأحوال عاصمة لدولة عظيمة.
وفي ذات السياق يقول توماس تومسون من جامعة كوبنهاغن في كتابه (The Mythic Past) الماضي الأسطوري: " قصص الكتاب المقدس حول شاول وداود وسليمان لا علاقة لها بالتاريخ على الإطلاق"
بينما يقول زئيف هرتسوغ بروفيسور علم الآثار في جامعة تل أبيب: " الاكتشافات الأثرية لا تدعم أبدا بل وفي كثير من الحالات تتعارض مع قصص الكتاب المقدس التي تصف ولادة الشعب اليهودي "
أما الباحثة مارغريت ستينر فتقول عن التنقيبات حول العصر الحديدي في مدينة القدس: " لا بقايا لمدينة، وإن كانت هناك مدينة في أي وقت مضى فلا أثر لأسوارها، ولا لأي من بواباتها، ولا منازلها. ولا قطعة واحدة من العمارة فيها. ببساطة لا شيء! "
وفي كتابه (In The Shadow Of The Temple: The Discovery Of Ancient Jerusalem) في ظلال الهيكل اكتشاف القدس القديمة، يؤكد عالم الآثار الإسرائيلي مائير بن دوف أنه لا يوجد هيكل تحت الأقصى.
أما كيث وايتلام أستاذ الدراسات الدينية في جامعة "ستيرلينغ" الإسكتلندية في كتابه "إختراع إسرائيل، إسكات التاريخ الفلسطيني" فيقولها بصريح العبارة، لقد تم إستغلال الآثار لتزوير تاريخ المنطقة للتوافق مع حكاية التوراة.. آثار المنطقة تروي حكاية أخرى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يرجى التكرم بالالتزام بقواعد حرية الراي وحقوق النشر