يحمل التاريخ إرثاً ليس بهين من الأساطير والقصص الخيالية حول كيفية نشوء الكون وبدء الخلق، وبغض النظر عن كونها صحيحة أم لا، إلا أنها تظل مهمة ولا يمكن تجاهلها بأي حال من الأحوال. معظم هذه الأساطير تدور حول فكرة واحدة وهي الحرب الأبدية بين قوى الخير والشر، كما أنها تحمل بداخلها معانٍ ورموزاً عميقة. حالياً هناك توجه لتجريد هذه الأساطير من معانيها الدينية والعقائدية ومقارنتها وربطها بالعلم ونظرياته الحديثة، على كل حال ستبقى البدايات لغزاً عصياً على الإدراك والتفسير، على الأقل حتى لحظتنا هذه!
الحضارة الفرعونية
تعددت القصص والأساطير في الحضارة الفرعونية حول خلق الكون، وذلك بسبب تعدد الآلهة واحتلال كل إله جديد لمكانه الإله الذي سبقه، وإعتباره الإله الأول والأوحد، فلم يعد يعرف أيهم الأول بالفعل، ولكن ثمة أسطورة هى الأشهر والأكثر انتشاراً في تاريخ مصر القديمة، بين الأساطير المختلفة لأقاليم مصر القديمة.
تقول هذه الأسطورة إن قبل الخلق لم يكن هناك شيء على الإطلاق سوى “نون”، والتي تعتبر أصل الموجودات والمخلوقات كلها، والتي يفسرها علماء المصريات بأنها الأم أو الرحم الكونية التي خرجت منها كل الأشياء، يمكننا تبسيط التعريف بشكل أكثر وضوحاً ومنطقية، والقول بأن نون تمثل العدم، السكوت والصمت المطلقين قبل الخلق.
بدأ الخلق في الحضارة الفرعونية بوجود المحيط الأزلي أو المياه الأزلية، والتي تطفو على سطحها بيضة ذهبية ضخمة، وهي البيضة الكونية التي تتبناها أساطير عدة حول نشوء الكون، وبانفجار هذه البيضة خرج منها الإله أتوم الإله الأول، عطس أتوم فخلق بقوة صوته الإله “تشو” إله الهواء، ثم بصق بعدها فظهرت إلهة الندى “تفنوت”.
ليكونا بذلك الجيل الأول من الآلهة، وبزواجهما ينجبا “نوت” ربة السماء، و”جب” رب الأرض، ثم يفصل بينهما والدهما الإله تشو، حيث يرفع نوت عالياً لتصبح السماء، بينما يبقي جب في الأسفل ممثلاً الأرض.

وفي هذه الأثناء خرج الإله رع للوجود من قلب زهرة لوتس عائمة على سطح البحر، يقال إنه خلق نفسه بنفسه، بدون تدخل من الإله أتوم، وبمجرد ظهور رع وخروجه من العدم نشب الصراع بينه وبين أتوم، بسبب سيطرة رع واستحواذه على مكانة كبير الآلهة، ومن هنا بدأت الآلهة في الانقسام إلى صفين ، صف رع وصف أتوم. وبنشوب الحرب قامت الآلهة بخلق الشياطين والشر لمواجهة الفريق الآخر، وبازدياد قوى الشر على الأرض قررت الآلهة تركها للأبد والانتقال للعيش في السماء، بعد خلق البشر وتسخيرهم لمواجهة قوى الشر، وتوفير الماء والزرع والجنس لهم للاستمرار على الأرض وتطهيرها من الشر.
الحضارة الصينية

تدور أسطورة الخلق في الحضارة الصينية حول انبثاق الحياة من بيضة كونية أيضاً، كتلك التي خرج منها الإله آتوم في الحضارة الفرعونية، لكن هذه المرة ساكن البيضة بطل بقوى خارقة وليس إلهاً، بطل يدعى “بان قو” والذي استيقظ من نوم طويل دام 18 ألف عام، وعند استيقاظه لم ير حوله سوى الظلام الذي يحيط به من كل مكان، فقرر تحرير نفسه بنفسه من هذا المكان الضيق، وأخذ يدور يميناً ويساراً محاولاً تهشيم هذه البيضة، حتى تحطمت وسقطت المواد الثقيلة بداخلها لتتكون الأرض، بينما تطايرات المواد الخفيفة نحو الأعلى وشكلت السماء.
سرّ بان قو بانفصال الأرض عن السماء، لكنه كان قلقاً من احتمال اتصالهما ببعض مرة أخرى، وكان بان قو عملاقاً يمتلك جسداً ضخماً للغاية، فظل واقفاً بين السماء والأرض، رافعاً السماء بيديه خوفاً من أن تسقط وتعود لسيرتها الأولى ملتصقة بالأرض. ظل بان قو على هذه الحال حتى 18 ألف عام أخرى، حيث بدأت تخور قواه ويضعف جسده أكثر فأكثر، حتى سقط فجأة ومات.
وبموته تطايرت أعضاء جسده لتشكل الكون، فتحولت عينه اليسرى إلى الشمس، أما عينه اليمنى فأصبحت القمر، أيضاً تحولت أنفاسه إلى رياح، وصوته إلى رعد، ولحيته البيضاء إلى نجوم تزين السماء، كذلك رأسه وأطرافه الأربعة تحولت إلى جبال ووديان، أما دماؤه فصارت أنهاراً وبحيرات، وبذلك تشكلت الدنيا.

وعن خلق البشر تقول الأسطورة الصينية أنه كان هناك إلهة تدعى “نيوى وا” كانت تشبه الإنسان في تكوينه إلى حد ما، وفي يوم من الأيام كانت تتجول “نيوى وا” بين السماء والأرض في هذا الكون الفسيح الصامت الذي لا حياة فيه، فشعرت بوحدة وضجر شديدين، فنزلت إلى نهر تلهو قليلاً بالطين والماء، وقامت بتشكيل دمى تشبهها بجسد إنسان وذيل تنين، فخطر لها أن تغير من شكلها قليلاً وتمنحها أقداماً بدلاً من الذيل، وبعد الانتهاء نفخت في هذه الدمى التي صنعتها فدبت فيها الروح، وصارت تشعر وتفهم وتتحدث، ففرحت نيوي وا كثيراً وقامت بصنع الكثير من هذه الدمى التي أطلقت عليها اسم “إنسان”، ولكي تسرع قليلاً في عملية الخلق أخذت حبلاً من الأعشاب وغمرته بالطين، ثم قامت بنفض الحبل فتناثر عدد هائل من قطع الطين يمنياً ويساراً، فنفخت في هذه القطع ودبت فيها الروح، وظلت هكذا تلهو أو تخلق حتى اكتفت بعدد كبير، وبعدها قامت بتقسميهم إلى إناث وذكور، وأوكلت مهمة الاستمرار إليهم.
الحضارة الفارسية

تختلف أساطير الخلق الفارسية قليلاً عن الأساطير السابقة، فليس هناك امتداد مائي بزغت منه الحياة، بل بدأ الكون بصراع بين النور والظلام، صراع بين قوتي جيشين يترأسهما “أهورامزدا” قائد جيش النور، وفي الجهة المقابلة “أهريمن” قائد قوى الظلام.
بدأ الصراع بينهما عندما أراد “أهيرمن” نزع السلطة من “أهورامزدا” الذي حكم عالم الأرواح لمدة 3000 عام، أمهل “أهيرمن” “أهورامزدا” 9000 عام للتخلي عن الحكم دون حرب، لكن أهورامزدا رفض تخليه عن السلطة، وخلال هذه المهلة قام بخلق الكون على ستة مراحل، حيث قام بخلق السماء أولاً، ثم الماء، فالأرض، فالنباتات، فالحيوانات والماشية، وأخيراً خلق الإنسان في الوقت الذي اشنغل فيه أهيرمن بخلق الشياطين والمسوخ لمواجهة أهورامزدا.
الحضارة البابلية

الحضارة البابلية من أقدم الحضارات البشرية على الإطلاق. وصلت إلينا أساطير البابليين حول نشوء الكون والخلق، عن طريق الألواح السبعة لملحمة التكوين الشهيرة “الإينوما إيليش”، والتي تعود إلى مطلع الألف الثاني قبل الميلاد.
وكباقي الأساطير الأخرى التي يبدأ فيها الكون بالمياه الأزلية، كان بدء الكون في الأسطورة البابلية بالمحيط الأزلي الذي سكنه ثلاثة آلهة، “آبسو” إله الماء العذب، و”تيامات” إلهة الماء المالح، و”ممو” إله الضباب.
عاشت الآلهة الثلاثة في حالة سكون مطلق، تعيش بجانب بعضها البعض، إلى أن دبت فيها الروح وبدأت في التناسل، لتتعاقب أجيال من الآلهة، حتى ظهر الإله “إنكي” إله الحكمة بطل الملحمة الأول.
تعددت الآلهة وانتهت حالة السكون الأولى، وتحول الصمت المطلق إلى حياة صاخبة مليئة بالحركة، الأمر الذي عكر صفو الآلهة القدامى خاصة الإله آبسو، الذي قرر إنهاء هذه الحالة العبثية والعودة إلى حالة السكون الأولى، وذلك بالتخلص من الآلهة الجديدة، وبدأ بتنفيذ خطته رغم رفض ومعارضة من تامات، التي لم تستطع التخلي عن أبنائها.
علمت الآلهة الجديدة بنوايا آبسو، فوكلت الإله إنكي لتخليصهم من مخططات آبسو، وقام بحمايتهم بتعاويذ سحرية لحمايتهم، تبعها بتعويذة أخرى أدخلت آبسو في سبات عميق وشلت حركته، وبينما هو نائم قام إنكي بنزع التاج الملكي عن رأس آبسو، ووضعه على رأسه إشارة لاستيلائه على مكانة آبسو بين الآلهة، ثم ذبحه.
بعدها بسنوات أنجب الإله إنكي “مردوخ”، البطل الثاني الذي سيكمل مسيرة أبيه في الحكمة والقوة، في الوقت الذي عقدت فيه الإلهة “تيامات” النية على الانتقام لزوجها آبسو، الذي ذبح بعبث الآلهة الصغيرة، فضلاً عن ضجرها من الحياة الجديدة ورغبتها في العودة إلى حالة السكون الأولى، فأعلنت الحرب على الآلهة الصغيرة، وبدأت بتجهيز جيش من الشياطين والمسوخ والحيوانات المفترسة، وعينت زوجها الجديد الإله “كينغو” قائداً لجيشها، وعلقت على صدره ألواح القدر.
علمت الآلهة الجديدة بما تخطط له “تيامات”، فوكلوا مردوخ لمواجهتها، فاستعد مرودخ لها أفضل استعداد، وسخر الرياح والبرق لمواجهتها، وعندما التقى بها مردوخ طلب قتالاً منفرداً معها فوافقت، وبعد صراع مميت أرداها قتيلة، ثم أسر الإله “كينغو” قائد الجيش وسلبه ألواح القدر.
بعد انتصار مردوخ على تيامات وجيشها، التفت إلى بناء الكون وتنظيمه، فقام بشق جثة “تيامات” إلى نصفين، جعل من النصف الأول سماء، وأحال النصف الثاني إلى أرض، ثم قام بخلق النجوم والشمس والقمر، وبعد أن أتم خلق الكون قام بخلق الإنسان من دماء الإله كينغو.
الحضارة السومرية

أسطورة أخرى من أرض العراق، تؤكد بأن العالم كان فارغاً من كل شيء عدا المياه الأزلية، التي خرجت منها الإلهة “نمو” إلهة الماء، وأنجبت كلاً من “آن” رب السماء، و”كي” ربة الأرض كأول آلهة، وبعد زواجهما أنجبا “انليل”، رب الهواء الذي قام بدوره بفصل أبويه الأرض والسماء عن بعضهما.
لم يستطع “إنليل” التأقلم مع الظلام فأنجب ابنه “نانا” لييصبح القمر، الذي أنجب الإله “أوتو” فيما بعد ليصبح الشمس، لينتهي الظلام إلى الأبد.
بمرور الوقت بدأت الآلهة تشعر بالضجر والتعب من القيام بكل المهام، وشعروا أنهم تحولوا فجأة إلى عبيد الأرض التي صنعوها وصار الحمل ثقيلاً لا يُطاق، كما هو مذكور في إنجيل سومر، فراحت ترفع شكواها للآلهة “نمو” الإلهة الأولى، فاقترح ابنها إنكي إله الحكمة أن يقوم بخلق كائنات جديدة تخفف عبء العمل على الآلهة، واقترح ان تخلق هذه الكائنات من الطين، وتهبها الآلهة قليلاً من حكمتها لتستطيع تنفيذ ما يوكل إليها من أعمال.
وافقت الآلهة “نمّو” وكلفت “إنكي” بالقيام بخلق هذه الكائنات، الأمر الذي استفز الإلهة “ننماخ” كونها المسؤولة الأولى عن عملية الخلق، وفي حفلة إلهية ضخمة قرر تننماخ تحدي إنكي، رغبة في إظهار عدم قدرته على الخلق، وقامت بصنع ستة أنواع من الإنسان، لكنهم كانوا مشوهين جميعاً، وليسوا بالصورة التي أرادها إنكي، فجاء دور إنكي فصنع ستة آخرين كانوا مرضى ومشوهين أيضاً، فانتهى الأمر بإشراك كل الآلهة في خلق الإنسان، ثم منحهم إنكي القليل من حكمته بما يتناسب مع قدراتهم المحدودة والضئيلة.
الحضارة اليونانية

نحن أمام أشد الأساطير تعقيداً.. يبدأ الكون في الأسطورة اليونانية بظلام حالك، حالة كاملة من العدم، لكن لم تدم هذه الحالة حيث قسم العدم نفسه إلى إلهين هما جايا إلهة الأرض، وأوروانوس إله السماء، وكانا ملتصقين ببعضهما حتى نشب بينهما خلاف فانفصلا عن بعضهما إلى الأبد، وبعد زواجهما أنجبا عدداً كبيراً من الآلهة، قاما بتقسيمهم إلى قسمين؛ القسم الأول هم “التيتان” وهم آلهة تشبه البشر قليلاً وتمتلك قدرات خارقة، بعكس القسم الثاني الذي أطلقوا عليه اسم “الكولكلوبيس”، فقد كانوا أشبه بمسوخ وشياطين قبيحي المنظر إلى أبعد حد، فقام أوروانوس بسجنهم في باطن الأرض، رغم اعتراض الإلهة جايا.
ومن هنا بدأت الحروب الدامية بين الآلهة والتي امتدت لعصور، حروب اشتعلت فيها الأرض والسماء بالصواعق والرعد، وهاجت البحار والمحيطات، وذلك بصراع الآلهة الأولى مع الآلهة الجديدة، بدأ الخلاف عندما طلبت جايا من أولادها التيتان تحرير إخوتهم المقيدين في باطن الأرض، فلم يقبل أحد إلا ابنها الأصغر الإله “كرونوس”، فأوصته بذبح والده أولاً انتقاماً لإخوته، وبالفعل قام كرونوس بذبح أبيه بالمنجل.
حرر كرونوس إخوته وأصبح حاكماً عليهم، حتى كبر وهرم فخاف أن يلقى مصير أبيه ويذبحه أحد أبناؤه، فقام بابتلاعهم جميعاً، خاصة بعد إعلان أحد الآلهة نبوءة تؤكد بأنه سيأتي اليوم الذي يتم قتل فيه كرونوس على يد واحد من أبنائه، لكن زوجته ريا أخفت اينها السادس “جوبتير” عنه، وعزلته في جزيرة بعيدة عن أبيه حتى لا يبتلعه.
نشأ جوبتير في هذه الجزيرة حتى كبر ونضج، فأمرته أمه بالعودة للانتقام لإخوته، وبالفعل تحققت النبوءة وقتل جوبتير والده، وأصبح بعدها كبير الآلهة، وقام بتقسيم أمور الكون على إخوته وظل هو سيداً عليهم، وفي هذه الفترة قام جوبتير بخلق البشر لمساعدة الآلهة، لكنه رأى فيهم غطرسة واضحة، وضعفاً وتخاذلاً عن أدوار مهامهم، فضلاً عن عدم احترامهم للآلهة، فأمر مستشاره وأخاه بروميثيوس بإبادتهم وخلق جيل جديد، فجاء الجيل الجديد أكثر ضعفاً وفشلاً في تسيير أمور حياته من الجيل الذي سبقه، وأصابه الفقر والبرد والمرض، فاقترح بروميثيوس على جوبتير أن يمدهم بالنار لمساعدتهم، إلا أن جوبتير رفض خشية أن يعتقدوا بأنهم أصبحوا متساوين مع الآلهة.

وبمرور الوقت رفض بروميثيوس سياسة جوبتير في التعامل مع البشر، فتخلى عن ألوهيته ونزل إلى الأرض ليعلم البشر أمور الحياة ويعدل بينهم ويوجههم إلى الطريق الصحيح، الأمر الذي أثار غضب جوبتير وأقسم على أن يهلك الأرض ومن عليها، فأرسل طوفاناً قوياً لم يبق أحداً، باستثناء ديوكاليون بن جوبتير، الذي توارى إلى قمة جبل هو وزوجته، وبعد انتهاء الطوفان نزل الاثنان وتجولا في الأرض وسكنا معبداً قديماً للآلهة، وسمعا صوتاً يناديهم بأن أعيدوا إعمار الأرض بالسكان من عظام أمكما؛ فأدركا أن هذا الصوت هو صوت ربة الأرض جايا، فراحا يحملان الصخور ويرميان بها في طريقهما، فكان كل حجر يرميه ديوكاليون خلفه يتحول إلى رجل وكل حجر ترميه زوجته خلفها يتحول إلى امرأة، وعادت الحياة من جديد وعاد البشر يعمرون الارض في ظل الإله ديوكاليون العادل.
*****************
قد تلاحظ معي أن أغلب الصور الذهنية المستخدمة في هذه الأساطير طفولية وغريبة بشكل كبير، لكن هذا التقارب والتشابه بين بعضها البعض، يدل على أن ثمة حقيقة ما مشتركة بين هذه الأساطير، صحيحة أم خاطئة، هذا دور العلم هو من يحدد حقيقتها، ومن أين جاءت فكرة المحيط الأزلي والبيضة الكونية المشتركة في كافة هذه الأساطير رغم كونها من حضارات وثقافات مبتاعدة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يرجى التكرم بالالتزام بقواعد حرية الراي وحقوق النشر