أثر الجواري في العصر العباسي
هند يوسف مجيد السامرائي
ان تجارة الرقيق، اناث وذكور، تقليد بشري قديم قدم تواجد المجتمعات البشرية. منذ إن عرف الانسان الجوع والحرب عرف العبودية، إذ كان اول العبيد هم اسرى الحروب كذلك ابناء الفقراء الذين يبيعهم اهلهم الى الاغنياء لكي ينقذوهم من الجوع والفقر. ظلت العبودية سائدة في كل انحاء الارض اينما وجدت الجماعات البشرية، ما دام هنالك فقر وهنالك حروب. صحيح أن الإسلام لم يحرم الرق، بل دعا إلى إلغائه تدريجيا، وذلك لاستحالة فرض الغائه في تلك الازمان. من هنا كانت النظم والقوانين التي جاء بها الإسلام لتحسين أحوال الرقيق والرفع من مكانتهم الاجتماعية. يمكن القول ان المجتمعات الاسلامية هي اكثر المجتمعات التي توفرت فيها الفرص للعبيد، نساء ورجال، ان ينعتقوا من عبوديتهم ويصعدوا في السلم الاجتماعي الى حد ان يكونوا اعضاء في الطبقات الحاكمة وشخصيات مرموقة في مختلف المجالات.
منذ العصر العباسي الاول (132 - 232 هـ/ 750م - 846م)" برزت ظاهرة التمازج الحضاري والسكاني بين الجماعات العربية التي استقرت في ربوع النهرين مع السكان العراقيين الاصليين من الذين دخلوا الاسلام. فمثلا بالنسبة إلى الخلفاء العباسيين، من بين سبعة وثلاثين خليفة عبّاسي لم يكن من بينهم من هو عربي الام الا ثلاثة: (ابو العباس السفاح)، و(المهدي بن المنصور)، و(محمد الامين بن هارون الرشيد). وادى توجه العباسيين للزواج من ابناء البلد ومن الجواري والاماء إلى ترشيح ابنائهن لمنصب الخلافة وذلك يخالف ما جرى عليه العرف ايام الامويين إذ كانوا لا يستخلفون ابناء الاماء.
ان كثرة الجواري في اسواق (بغداد) في هذا العصر، يعود اولا الى الغنى المادي الفاحش الذي تراكم لدى الطبقة العباسية الحاكمة بسبب تراكم مغانم الحروب والعائدات المالية والعينية المجلوبة الى (بغداد) من جميع انحاء الامبراطورية. فضلاً عن كثرة الحروب التي كان على الدولة العباسية خوضها في اصقاع مختلفة مما أدى إلى اتساع الدولة وانتشار تجارة الرقيق انتشارا واسعا. علما ان هؤلاء الرقيق، من اناث وذكور، لم يكن بمعظمهم من الاسرى، بل ان غالبيتهم العظمى اطفال قد باعهم اهلهم الى النخاسين من اجل انقاذهم من الفقر والجوع، وعلى امل ان يحالفهم الحظ في حياة اخرى. وفعلا ان الكثير من هؤلاء الرقيق قد استثمروا اوضاعهم الجديدة فصعدوا بالسلم الاجتماعي واصبحوا اعضاء في الطبقة الحاكمة نفسها، بل ان بعضهم اصبحوا سلاطين، ومن اشهرهم(كافور الاخشيدي) في مصر، كذلك امهات وزوجات الخلفاء اللواتي كن جواري، ومن اشهرهن (الخيزران) ام(هارون الرشيد).
ان الحديث عن الجواري يقتضي اولا الحديث عن النخاسين أو (تجار الجواري). كان هؤلاء يشكلون فئة اجتماعية متكاملة، من حيث عدد العاملين معهم من عمال وكتاب ووسطاء وشبكات دعارة ودعاية وتثقيف، ولهم فروع وعيون واتصالات مع وسطاء وتجار فرعيين مقيمين في جميع انحاء الارض. كان للنخاسين دُوراً في (بغداد) مخصصة لتلك التجارة تقع على شواطئ نهر دجلة قرب أسواق الرقيق. كما أن هنالك دوراً خاصة للرقيق مجاورة لدورهم، وهنالك حكايات كثيرة عما يجري في تلك الدور من مجون تحت إشراف النخاسين وبتوصية منهم استجلابا لطبقة الأغنياء وطبقة الشعراء ممن يستهويهم ذلك النوع من الحياة اللاهية في أوساط الجواري. وقد تطور العمل والتخصص لدى هؤلاء النخاسين بحيث انهم جلبوا المعلمين والمثقفين في مختلف الفروع لكي يقوموا بالاشراف على تربية وتثقيف جواريهم وتعليمهن مختلف معارف ذلك الزمن لكي يتمكن من مجالسة أفراد الطبقات العليا والتأثير فيهم.
لقد نجحت جهود النخاسين الكبيرة في هذا المضمار للدرجة التي أصبحت فيها الكثير من هؤلاء الجواري يجادلن ويحاورن في كثير من أبواب العلوم والفنون بالشكل الذي تفوقن فيه على كثير من الحرائر اللواتي لم تتح لهن كل هذه الفرص في التثقيف والتعليم. ان ارتفاع المستوى الثقافي لدى الجارية يعني ارتفاع سعرها، ثم ان هذا زاد في حظوظهن مع الرجال بالشكل الذي أدى إلى ازدياد تأثيرهن في المجتمع العباسي بأكمله. ان الجواري اثرن بشكل لا يمكن وصفه في الطبقات العليا من المجتمع العراقي وبالذات في الطبقة العباسية الحاكمة، ولم يقتصر الامر على نشر الخلاعة والمجون واجواء (الف ليلة وليلة)، بل كان لهن تأثير ايجابي واضح يتمثل بمساهمتهن في نشر الثقافة والفنون الجميلة والكثير من التقاليد والعادات المجلوبة من مجتمعاتهم الاصلية، سواء بالموسيقى والغناء والازياء والطبخ والادب وكل المجالات المعرفية. فضلاً عن ما تنتجه هؤلاء الجواري أنفسهن من شعر نتيجة لتثقيفهن ثقافة عالية من قبل نخاسيهن. بل إن أثر هؤلاء تعدى كذلك إلى الناحية السياسية فقد اتسع نفوذهن وقوي سلطانهن وخاصة اللواتي حظين بأن يكون لهن أزواج أو أبناء من الخلفاء، ويبدو ان الجواري المجلوبات من الحجاز كان لهن تأثير واضح في فن الغناء في (بغداد). وهنالك مجموعة من الخلفاء وأبناء الخلفاء ممن كانت لهم صنعة في الغناء. ومن اشهر الجواري اللواتي برزن على هذا الصعيد: (بذل) و(تيم) و(دنانير) و(عريب) و(فريدة) و(عاتكة بنت شهدة) و(قلم الصالحية).
كما كان لهؤلاء الجواري تأثير أدبي على الادباء انفسهم يتمثل فيما تثيره الجواري من عواطف في صدور الشعراء فتخرج على ألسنتهم شعرا جميلا. ولهذا السبب انتشر شعر الغزل بصورة تفوق أي عصر، وانقسم الى غزل عفيف وغزل ماجن. ومن أشهر القصص المعروفة على هذا الصعيد قصة( بشار بن برد وعبدة) و(قصة العباس بن الأحنف وفوز) وقصة (أبي العتاهية وعتبة) وقصة (أبي نواس وجنان)، فضلاً عن قصص اقل شهرة، مثل قصة (إبراهيم الموصلي وذات الخال) وقصة (محمد بن أمية وخداع).
هناك مجموعة من الجواري نظمن الشعر وتفوقن في النظم فيه، يحضر مجالسهن الأدباء ويتبارين مع فحول الشعراء. لكن للاسف تاريخ الادب لم يحفظ لنا الكثير من نتاجاتهن، ربما بسبب تدخل بعض المتزمتين من ذوي العقلية الفحولية في الغاء ومسح تراثهن!! هنالك جاريتان شغلتا المجتمع العباسي وسيطرتا على تفكير كثير من الخلفاء والشعراء بما تملكانه من موهبة فنية في نظم الشعر ورواية للأخبار والأشعار وهما (عنان) جارية (الناطفي) و(عريب) جارية (المأمون).
بروز الدور السياسي للمرأة
وفي تلك الحقبة ازدادت مشاركة المرأة السياسية بسبب التطورات الاجتماعية المتسارعة آنذاك. فقد اعتمد الخليفة المنصور على النساء في جمع الاخبار عن اعدائه وساعده الاعتماد على النساء في معرفة احوال الناس حتى عرف الولي من العدو والمُداجي من المُسالم. ومن النساء العباسيات اللاتي كان لهن دور في العصر العباسي (زينب بنت سلمان) إذ عمرت طويلاً. كما مارست المرأة القضاء فقد تولت أم الخليفة (المقتدر العباسي) رئاسة محكمة استئناف بغداد.
ولما تسلم (المهدي) الخلافة ظهرت المشاركة النسائية بصورة واضحة وكان لنساء الخلفاء وامهاتهم أثر لا يمكن اغفاله في ا لشؤون السياسية إذ عارض (عبد الله بن المقفع) هذا الدور المتعاظم للمرأة وكتب يقول: ((امور كثيرة لا يجترئ عليها إلا أهوج، ولا يسلم منها إلا قليل: صحبة السلطان، وائتمان النساء على الأسرار، وشرب السم للتجربة، وركوب البحر)). وقد تدخلت النساء في حياة (المهدي) وشؤون الدولة فقد كان كثير الجلوس مع النساء، وكانت زوجه (الخيزران) (ام هارون الرشيد) تجلس في عتبة الرواق المقابل للايوان، وتجلس (زينب بنت سليمان) بإزائها، وفي الصدر مجلس الخليفة (المهدي)، يقصدهن في كل وقت فيجلس ساعة ثم ينهض. وكان من تأثير (الخيزران) ان رشح (المهدي) إبنيها وهما (الهادي والرشيد) للخلافة، مع ان ابنه الاكبر (عبد الله) من ابنه عمه وهي عربية هاشمية (رابعة بنت ابي العباس).
وفي عصر (الرشيد) مارست زوجه (زبيدة) السياسة وكانت الملكة الثانية في بلاط العباسيين بعد (الخيزران). ففي عصر (الرشيد) زاد اقبال الناس على الجواري وتعليمهنّ ودفع الاثمان الباهظة في شرائهنّ وقد اثر ذلك على مختلف جوانب الحياة مما ادى إلى زيادة تحرّر المرأة واندفاعها للمشاركة في شؤون الحياة المختلفة. ويلاحظ ان دخول النساء العراقيات في الاحزاب قد تراجع في العصر لعباسي عما كان عليه الوضع ايام الامويين كما تراجعت مشاركة المرأة في القتال، ربما بسبب استقرار الاوضاع عموما وكذلك اعتماد الدولة على قوات مجلوب من الخارج بمعظمهم من تركستان. ان تدخل (زبيدة) في عصر (الرشيد) جعله من ازهى عصور الخلافة العباسية، فزبيدة تتابع والرشيد دائم البحث عن اسرار رعيته يساعده في ذلك عيونه واصحاب اخباره في جميع الولايات. اما (المأمون) (198-218) فقد اعتمد على العنصر النسائي ليس في أخذ المشورة ولكن في تسيير اعماله، ففي نزاعه مع (الامين) كان يرسل بريده مع النساء، يضعن البريد داخل اعواد منقورة من المكاف (نوع من الشجر). ولم يقتصر اعتماده على النساء في نقل البريد فحسب، بل كان يرسل النساء والرجال متنكرين في زي التجار او الاطباء وكان يفضل استخدام العجائز في هذه المهمات اذ يذكر (النويري) ان العجائز كن يأتينه كل مساء بتقارير مفصلة تتعلق بأخبار الناس وأخبار اللصوص والفساق. وذكرت بعض المصادر ان عدد هؤلاء العجائز يقارب الالف عجوز. ان تعاون الخلفاء مع بعض النساء وفسح المجال امامهن للمشاركة في شؤون الدولة اثبت ان المرأة مثل الرجل قادرة على تصريف شؤون الدولة والاعتماد عليها.
وقد تعاظم أثر المرأة كثيرا في العصر العباسي الثاني (242-334، 846-907م) ويبدو ان الفساد الهائل في بلاط الخلفاء في هذا العصر انعكس بصورة سلبية على أثر المرأة خلافاً لدورها الايجابي في العصر العباسي الاول. لقد زاد الاعتماد على النساء في العصر العباسي الثاني في ادارة السجون التي كانت في قصور الخلفاء لحبس المتنفذين في الدولة، فقد كان معظم الوزراء الخارجين على الخلافة من المتنفذين يسلمون لزيدان قهرمانة المقتدر. واصبح لامهات الخلفاء وازواجهم دور اكثر وضوحا مما كان في السابق، اذ وصل تأثير النساء على الخلفاء صورة لم يألفها المجتمع من قبل وذلك نتيجة الامتيازات التي حصلن عليها وضعف الخلفاء وصغر سنهم وقد تمكن هؤلاء النسوة مع وصيفاتهن ومواليهن وبعض القادة والكتاب من تشكيل طبقة خاصة شكلت عبئاً مالياً كبيراً على خزينة الدولة. ومن علامات الانحطاط انه كان يتوجب على الولاة في الدولة ان يهادوا الخليفة والسيدة والخالة والقهرمانة والحاجب والخادم وكتابهم وكل من يلوذ بهم، وكان هذا التقليد لا يجوز الاخلال به والا تعرض صاحبه للعزل والسجن.
اما في العصر الثالث والاخير(334-656هـ، 946-1258م)، إذ خضعت السلطة العباسية تماما للقوى العسكرية الناهظة من شرق الخلافة، في ايران وتركستان، وبدأ أثر العراقيين يتراجع بالتدريج في التأثير على الدولة. ثم ان ازدياد التوتر والثورات وتعاظم التهديدات الخارجية والحروب الصليبية، كل هذا جعل الروح الحربية الفحولية تطغي على الروح الانوثية المسالمة. وفي الحقبة البويهية كان أثر النساء محدوداً جداً ويعود السبب إلى ان خلفاء تلك الحقبة لم يكن لديهم سلطة في الدولة، ولهذا لا تأثير بالضرورة لنسائهم. ولكن ثمة استثناءات، فقد برزت في تلك الحقبة (عابدة بنت محمد الجهنية) وكانت اديبة شاعرة فصيحة وكانت تحضر مجلس عضد الدولة. وبرزت (قهرمانة معز الدولة)، فقد كانت تعقد المحالفات مع رجال الدولة وتعين الوزراء وكذلك قهرمانة الخليفة القائم بأمر الله، (وصال)، فقد كانت تشترك في اختيار الوزراء، شأنها شأن قهرمانات العصر العباسي الثاني. وفي الحقبة السلجوقية وتنامي الحياة الحربية والفحولية بسبب المخاطر التي تهدد الدولة والتي امتدت اكثر من مائتي عام من عام 447 وحتى سقوط بغداد سنة 656هـ. وقد ظهرت استثناءات إذ لم يكن للنساء دور مؤثر في سياسة الدولة بشكل عام. فقد ذكر ابن الاثير انه في زمن (المقتدي) اول خلفاء هذه الحقبة كانت جاريته (شمس النهار) قوية ولما سقط (المقتدي) مغشياً عليه، حلت ازرار ثوبه فوجدته وقد ظهرت عليه امارات الموت، ولما حاولت جارية اخرى الصراخ قالت لها شمس النهار: (( ليس هذا وقت اظهار الجزع والبكاء، فإن صِحْتِ قتلتك)).. واحضرت الوزير فأعلمته الحال وشرعوا في البيعة لولي العهد (المستظهر بالله). ومن النساء في عهد السلاجقة التي كان لها تأثير في المشاركة السياسية (زوجة طغرل بك) إذ كانت سديدة الرأي فوّضها زوجها امره في كثير من الامور فكانت على احسن تدبير.
الوضع الاجتماعي للجواري!!
وبتوسع الدولة الإسلامية وكثرة انتصاراتها رافق ذلك كثرة الجواري فيها، وكان هناك أسواق لبيع الجواري، اللاتي كن يختلفن في المنشأ والتربية والتعليم، فكانت هناك ثقافاتمختلفة وثرية في الفكر والعلم، وفي معرفة أمور الحياة في بيئات غير عربية، عند هؤلاء الجواري، وكان بعض النخاسين يختار من جواريه
(بضائعه) بعض النابهات منهن أو الجميلات، أو صاحبات المواهب بالصوت أو الحركة، ويحرص على تعليمهن وتربيتهن تربية خاصة سواء للغناء أو لتربية الأطفال أو لنظم الشعر أو لتعليم العلوم، وهذا ما ميزهن عن غيرهن من الحرائر اللاتي لم تتح لهن فرصة تعلم أي علم من العلوم النافعة.
ومن هذه الدور خرجت الجواري ذات الشهرة في الغناء والطرب ونظم الشعر، وكان لبعضهن علاقة حميمة وصبابة مع بعض الشعراء، فالكاتبة تذكر من أمثال ذلك قصة أبي نواس والجارية جنان، والشاعر أبي العتاهية وعتبة، وقصة المغني إبراهيم الموصلي وذات الخال.
وتشير الكاتبة إلى ملاحظة قيمة عن تطور الشعر بوجود هذا النوع من الجواري اللاتي كن يشاركن الشعراء في النظم وتبادل الغزل، فظهر الغزل الفاحش الذي لم يعد يخاطب الحرائر من النساء بل يخاطب الجواري المتهتكات واللاتي لا يبالين بالأوصاف الرخيصة لهن، فقد كانت الخلاعة والمجون جزءاً من حياة هذه الفئة.
وتغيرت لغة الشعر وأصبحت أكثر شعبية وأكثر غنائية، ودخلت ألفاظ جديدة على الشعر كما دخلت أوزان جديدة تتوافق مع اللسان الذي يصعب عليه بعض الكلمات العربية.
واغتنم الشعراء هذا المد الحضاري الترفيهي وساعدوا على نموه بوجود هذه الفئة من الجواري اللاتي كن يساهمن في الغناء وفي طرح الكثير من الشعر الخفيف الذي بدأ ينتشر مناسبا للغناء والطرب.
ليس كل الجواري سيئات!
والكاتبة وهي تبحث في أمور الجواري تقدم لنا فئة أخرى عكس هؤلاء الجواري ذات الاهتمامات الشعبية أو الفنية، فهناك جوار دخلن قصور الخلفاء ليصبحن زوجات وأمهات لبعض الخلفاء في عصور مضت. وكان لهن الأثر الكبير في إضافة لمسات الجمال للحياة في قصر الخليفة بما تربين عليه، من دخول أفكار من ثقافات غريبة عن الحضارة العربية، واستطعن الخلط بين الثقافات المختلفة بما لهن من نفوذ في قصر الحاكم.
وهناك من الجواري من كانت تحكم البلاد باسم زوجها، أو ابنها. والتاريخ العربي والإسلامي يمتلئ بهن، فمن المعروف أن الملك والخلافة لجنس الرجل، في الثقافة العربية، ولكن الحكم يمكن للمرأة المشاركة فيه، وهذا ما كانت تفعله بعض الجواري اللاتي وصلن الى أعلى قمة السلطة تحت الرجل مقارنة بين عصرين!
ترد مقارنة طريفة للمرأة في العصر الحديث والعصر العربي السابق، فالمرأة في العصر الحديث، وهي تملك الحرية التامة، استخدمت كمادة جمال وتشويق وإضافة، فهي توجد في الدعايات والإعلانات والإعلام وسيلة بذاتها، وبمعنى آخر إنها في هذا الزمن لا تزال جارية أو خادمة أو مملوكة تؤدي غرضا معينا، محدد الأهداف لها، ولم ترسمه هي لنفسها.
ويختلف الوضع عند الجارية العربية في العصر العباسي فهي جارية في الاسم والعرف، ولكنها في مواقع كثيرة لم تكن سوى السيد الذي يأمر وينهى، أي ان اسم الجارية، هو اسم ابتدائي وليس نهائياً. بل إن من هؤلاء الجواري من كن أمهات لخلفاء، ومنهن زوجات لقادة في الجيش تولين القياد في زمن الشدة.
يقول ان هارون الرشيد حلف على أخته عليّة الا تكلم غلاماً لها اسمه "طل" ولا تسميه واستمع إليها يوماً وهي تدرس آخر سورة البقرة حتى إذا بلغت قوله عز وجل: "فإن لم يصبها وابل فطل" وأرادت ان تقول "طل" ولكنها استدركت وقالت: فالذي نهانا عنه أمير المؤمنين. فدخل فقبل رأسها وقال: قد وهبت لك طلاً ولا أمنعك بعد هذا من شيء تريدينه!
فهل يمكن ان تتقبل فكرة ان الرشيد يهب أخته هذا الغلام بعد ان عرف ما بينهما؟ ان "طل" جارية تبين للرشيد تعلق أخته بها، وهذا التعلق لا يعني بالضرورة الممارسة المثلية فالتعلق الشديد أمر تمر به معظم الفتيات وعندما تنظر إلى شعر عليّة بنت المهدي أو خديجة بنت المأمون يتبين ان الأسماء النسوية التي تتغزلان بها ليست كنايات عن أسماء ذكور كما يعتقد الرواة وإنما هي أسماء نسوية حقيقية، ولاسيما ان القصور التي عاشت فيها عليّة وخديجة تعج بالجواري من مختلف بقاع الدنيا وتعاني هؤلاء الجواري - غالباً - من الفراغ العاطفي والجنسي
للجواري شأن كبير في تاريخ التمدن الإسلامي لا يقل عن شأن العبيد والموالي. وأصل الجواري ما يسبيه الفاتحون في الحرب من النساء والبنات فهنَّ ملك الفاتحين ولو كنَّ من بنات الملوك أو الدهاقين يستخدمونهن أو يستولدونهن أو يتصرفون في بيعهن تصرف المالك بملكه ولما أفضت أحوال المسلمين إلى الترف والقصف وتدفّقت الأموال من خزائن الخلفاء والأمراء جعلوا يتهادونهنّ كما يتهادون الحلي والجواهر، فمن أحب التقرب من كبير أهدى إليه جارية أتقنت صناعة يعلم أنه راغب فيها. ذكروا أن جارية اسمها دنانير صفراء صادقة الملاحة كانت أروى الناس للغناء القديم وقد خرّجها رجل من أهل المدينة فاشتراها جعفر البرمكي وسمع الرشيد صوتها فألفها وصار يسير إلى جعفر لسماع غنائها ووهب لها هبات سنية. وعلمت امرأته زبيدة بخبرها فشكته إلى عمومته فلم ينجحوا في إرجاعه فرأت أن تشغله عنها بالجواري فأهدت إليه عشر جوارٍ منهن مارية أم المعتصم ومراجل أم المأمون وفاردة أم صالح.
وكثيراً ما كان العمال والأمراء يتقرّبون إلى الخلفاء بأمثال هذه الهدايا فأهدى ابن طاهر إلى الخليفة المتوكل هدية فيها 200 وصيفة ووصيف. وليس الاستكثار منهن حادثاً في الإسلام وإنما هو من بقايا التمدن القديم فقد كان ملوك الفرس والروم يتهادونهن وبلغت عدتهن عند بعض الأكاسرة 6000 جارية وكان لجماعة من بني العباس ألف جارية. وكان تعليم الجواري وتربيتهن من أبواب الكسب الواسعة في ذلك العصر فيذهب أحدهم إلى دار الرقيق يبتاع جارية يتوسّم فيها الذكاء فيثقفها ويرويها الأشعار أو يلقّنها الغناء أو يحفّظها القرآن أو يعلّمها الأدب أو النحو أو العروض أو فناً من فنون المنازل ثم يبيعها، وقد ينبغن في حفظ القرآن حتى كان منهن عند أم جعفر مائة جارية لكل واحدة ورد عُشر القرآن وكان يسمع في قصرها كدوي النحل من القراءة.
فتعددت الجواري في دور الكبراء وتسابق أهل الترف إلى التفنّن في تزيينهن. وأشهر من فعل ذلك أم جعفر المذكورة فإنها لما رأت ابنها يغالي في تخنيث الغلمان وإلباسهم ملابس النساء اتخذت طائفة من الجواري سمّتهن المقدودات عممت رؤوسهن وجعلت لهن الطرر والأصداغ والأقفية وألبستهن الأقبية والقراطق والمناطق كأنهن من الغلمان واقتدى بها وجيهات قومها فاتخذن الجواري الغلاميات أو المطمومات وألبسوهن الأقبية والمناطق المذهبة. وطبيعي في ربّات الحسن أن يكنّ نافذات الكلمة لأن الجمال قوة والحب سلاح وكثيراً ما كان الخلفاء والأمراء يشتغلون بالجواري عن رعاية الملك ولاسيما المغنيات ولذلك كان رجال الحيلة يستخدمونهن للجاسوسية أو نيل رتبة أو منصب وكان المأمون يدسّ الوصائف هدية ليطلعنه على أخبار مَن شاء.
وكان لأم جعفر البرمكي موقعها السياسي،وزوج الرشيد زبيدة موقعها الاجتماعي،وكانت لهن مجالس للهو والطرب،والشعر والأدب،مما يدل على أن المرأة كان لها شيء من المشاركة في الحياة السياسية والاجتماعية.
وقد امتهن صنعة الغناء أبناء بعض الخلفاء مثل أبناء الخليفة العباسي المهدي وهم : عليّة وإبراهيم وكانا ملحنين وشاعرين ومغنيين في غاية الإتقان والإبداع وكانت تقدم عليه. والأخ الثالث هو يعقوب وكان أحذق الناس بالزّمر . ويروى عن عليّة أنها كانت في الرقة عند خالها يزيد بن منصور، وكانت الرقة العاصمة الصيفية للرشيد، فاشتاق إلى صوتها أخوها الخليفة هارون الرشيد فكتب إلى عمه ليرسلها إليه فأرسلها، وفي الطريق على نهر الفرات كتبت بيتين من الشعر وعملت فيهما لحناً وغنتهما : اشرب وغنِّ على صوت النواعير ما كنت أعرفها لولا ابن منصور
لولا الرجــاء لما أمَّلت رؤيته ما جزت بغداد في خوف وتغرير
وفي هذا دلالة على أن النواعير لم تعرفها العراق ، وكان معروفة في بلاد الشام ومنصوبة على الفرات والعاصي . كانت عليّة أخت الرشيد حسنة الدين ، لا تغني ولا تشرب النبيذ إلا إذا كانت معتزلة الصلاة، فإذا طهرت أقبلت على الصلاة والقرآن وقراءة الكتب وقول الشعر، إلا إذا دعاها الرشيد إلى الغناء فإنها كانت تلبي، فقد كانت تحبه حباّ جماًّ،
وكانت تقول: " لا غفر الله لي فاحشة ارتكبتها قط، ولا أقول في شعري إلا عبثاً". وكانت عليّة تراسل بالأشعار من تختصه، وكانت تختص غلاماً من خدم الرشيد اسمه "طلّ" فحلف عليها الرشيد ألا تكلم طلاًّ ولا تسميه باسمه . وذات يوم كانت تقرأ في سورة البقرة حتى بلغت قوله تعالى: "فإن لم يصبها وابل فطلّ" فاستبدلت كلمة طل وقالت" فالذي نهانا عنه أمير المؤمنين" وكان الرشيد يستمع إليها من وراء ستار فدخل عليها وقبّل رأسها وقال: قد وهبت لك طلاًّ ، ولا أمنعك بعد هذا من شيء تريدينه.
وعندما توفي الرشيد امتنعت عن النبيذ والغناء حزنا عليه، فلم يزل بها ابن أخيها الخليفة الأمين حتى عادت إلى الغناء كرها.ً في العصر العباسي حفظ لنا التاريخ اسم المطربة الشهيرة علوة الحلبية، والفضل يعود في ذلك إلى شعر البحتري.
كان صوت علوة الحلبية المطربة الذائعة الصيت صاحبة البحتري يوقظ الليل الهاجع في متنزهات بانقوسا وكانت تضم مربعاً غنائيا يقصده العامة والأدباء وعلية القوم. وهو واحد من مرابع غنائية يعمل فيها مطربون ومطربات منتشرة في متنزهات بطياس وبابللى وغيرها من متنزهات حلب. ومن الأصوات النسائية التي أغرم بها الشعراء وخلدوها في شعرهم " وحيد" التي ذكرها ابن الرومي في شعره، وكانت تجمع إلى جمال الصوت جمال القوام وحسن الوجه، وفي قصيدته فيها، ولا يمكننا عرضها كلها، نجد أن الشاعر لم يكن ذواقة للغناء والجمال فحسب وإنما كان ناقداً موسيقياً فنياً في وصفه لوحيد، يعدد الشروط الواجب تكاملها في الغناء والمغني من حيث الأداء ومساحات الصوت، والقرار والجواب، والتعبير والتلوين والتصرف والتحلية، والسلطنة والأسر، والمطابقة بين الإيقاع الشعري والإيقاع الموسيقي:
يا خليليَّ تيمتني وحيـد ففؤادي بها معنّى عميد غادة زانها من الغصن قدًّ ومن الظبي مقلتان
وجيد لاتراها هناك تجحظ عين لك منها ولا يدر وريد تتغنى كأنـها لا تغـني من سكون الأوصال
وهي تجيد من هدوٍّ وليس فيه انقطاع وسجوٍّ ومابـه تبليـد يسهل القول إنها أسهل الأشيــــاء طرّ
اً ويصعب التحديد والبيت الأخير يذكرني بتعليق الياس الرحباني على صوت شهد برمدا حين التفت إلى الجمهور
وقال: ما عندي شي أقوله إلاّ: قولوا ياسلام.
وحتى أوائل القرن العشرين كانت أغلب الخوجات بحلب من غير المسلمات.
ومن الأخبار والطرائف اللطيفة أنه كان هنالك مطربة شهيرة اسمها الحاجة عائشة المسلمينية من مطربات القرنين 19-20، كانت مسيحية وتزوجت في العشرين من عمرها شاباً مسيحياً ثم أسلمت وانفصلت عنه، ولم تتزوج بعده، ثم حجت وتعلمت القرآن، واشتغلت بالموسيقا والغناء للنساء فقط ، وقد قربتها نسوة الأسر الغنية إليهن حتى أثرت وعظمت نعمتها، لكنها كانت كثيرة الصدقات أنفقت كل ما جمعته على الفقراء وأعمال البر، وأوصت بما تبقى منه لينفق في هذا السبيل، وبقيت بارة بزوجها المسيحي تنفق عليه وتكلمه من وراء حجاب، وقد توفيت في أوائل القرن العشرين.
وهذه الحادثة تذكرني بأخبار بعض فناناتنا اليوم كشادية وغيرها اللواتي يعلن اعتزالهن للفن ويتحجَّبن ويذهبن إلى الحج، ويمددن لنا ألسنتهنَّ ساخرات قائلات: ها قد كسبنا الدنيا والآخرة ومن الأصوات النسائية في منتصف العشرين المطربة فيروز الحلبية وكانت كغيرها موضع احترام كبير من أهل الفن. وذات مرة كانت المطربة الكبيرة ماري جبران تغني في مسرح الشهبندر الصيفي. وإذ أقبلت امرأة عجوز سافرة ولما شاهدها الموسيقار أحمد الإبري قام بسرعة وأمسك بيدها وأجلسها بجانبه . كانت هذه العجوز فيروز الحلبية وهي التي أنشدت للملك فيصل حين زار حلب من ألحان الإبري " يا مليكاً عزّ نصرا" كما أنشدت له النشيد الوطني: شاهدت الشمس وقد بزغت فعجبت لمنظرها الحسن وسألت البدر لمن يعشق فشـــكى وبكى حب الوطن ومنهن أيضاً المطربة صاحبة الصوت الأوبرالي شادارافيان مع الموسيقار أنطوان زابيطا. والمطربة الزغرتاوية كهرمان التي عشقت حلب وأنشدت في حفل تكريم الجندي العائد من فلسطين والذي أنشد فيه عمر أبو ريشة قصيدته أمتي هل لك بين الأمم منبر للسيف أو للقلم أما المطربة الكبيرة خيرية السقا فقد كانت النجمة الغنائية الأولى في حلب ولها مع أم كلثوم حين زارت حلب ذكرى نزاع على من يحتل المسرح. اليوم ومع مهنة تصنيع الأصوات النسائية، والصياغات المشهدية المرئية المثيرة التي تصرفك عن الصوت وشروط الغناء الأصيل إلى صخب الجسد وغنائه، ومع الانتشار الواسع للأغنية الطقطوقة التي حلت محل الأغاني والقصائد الكبيرة الرائزة لقدرة الملحن والمغني، غابت أو تكاد تلك الأصوات النسائية الكبيرة. إنه عصر الوجبات السريعة وما بعد الحداثة.
ويظهر في العصر العباسي ما يسمى بـ(الزواج النهاري) الذي يبدو أنه لم يكن زواجاً معلناً، وربما كان مؤقتاً، ويقوم الزوج فيه بزيارة زوجه نهاراً فقط في بيتها، ويبدو أن هذا الزواج قد شاع في البصرة منذ القرن الثاني للهجرة وقد تلجأ المرأة إلى هذا النوع من الزواج في ظروف مادية صعبة، وذلك لكسب معاشها، وقوت يومها، فهو وسيلة من وسائل العيش.
وهكذا فإن منزلة المرأة في هذا العصر تتفاوت بتفاوت الطبقات والأحوال. ولقد ساعد تفاوت طبقات المرأة هذا إلى وجود الشعر الهجائي، حيث يقذف الشاعر نساء الآخرين، وشتم صريح لأعراضهم علانية.
ففي تلك الحقبة برزت ظاهرة التمازج الحضاري بين العرب وغيرهم من الذين دخلوا الاسلام وانتشر الزواج من غير العربيات بالنسبة للخلفاء العباسيين. فمن بين سبعة وثلاثين خليفة عبّاسي لم يكن من بينهم من هو عربي الام الا ثلاثة: ابو العباس السفاح، والمهدي بن المنصور، ومحمد الامين بن هارون الرشيد. وادى توجه العباسيين للزواج من الجواري والاماء إلى ترشيح ابنائهم لمنصب الخلافة وذلك يخالف ما جرى عليه العرف ايام الامويين حيث كانوا لا يستخلفون ابناء الاماء. وفي تلك الحقبة ازدادت مشاركة المرأة السياسية بسبب التطورات الاجتماعية المتسارعة آنذاك. فقد اعتمد الخليفة المنصور على النساء في جمع الاخبار عن اعدائه وساعده الاعتماد على النساء في معرفة احوال الناس حتى عرف الولي من العدو والمُداجي من المُسالم، فساس الرعية ولبسها وهو من معرفتها على مثل وضح النهار. ومن النساء العباسيات اللاتي كان لهن دور في العصر العباسي زينب بنت سلمان حيث عمرت طويلاً وهي التي دخلت على المأمون تعاتبه على لبس الخضرة وتقريب العلويين وقالت له: "يا أمير المؤمنين، انك على برّ اهلك من ولد علي بن ابي طالب اقدر، من غير ان تزيل سُنًّةُ من مضى من ابائك. فدع لباس الخضرة ولا تطمِعنَّ احداً فيما كان منك" ولما تسلم المهدي الخلافة ظهرت المشاركة النسائية بصورة واضحة وكان لنساء الخلفاء وامهاتهم دور لا يمكن اغفاله في ا لشؤون السياسية حيث عارض عبد الله بن المقفع هذا الدور المتعاظم للمرأة وكتب يقول: "امور كثيرة لا يجترئ عليها إلا أهوج، ولا يسلم منها إلا قليل: صحبة السلطان، وائتمان النساء على الأسرار، وشرب السم للتجربة، وركوب البحر". وقد تدخلت النساء في حياة المهدي وشؤون الدولة فقد كان كثير الجلوس مع النساء، وكانت الخيزران تجلس في عتبة الرواق المقابل للايوان، وتجلس زينب بنت سليمان بإزائها وفي الصدر مجلس الخليفة المهدي، يقصدهن في كل وقت فيجلس ساعة ثم ينهض. وكان من تأثير الخيزران ان رشح المهدي إبنيها وهما الهادي والرشيد للخلافة، مع ان ابنه الاكبر عبد الله من ام عربية هاشمية هي رابعة بنت ابي العباس.
وفي عصر الرشيد مارست زوجته زبيدة السياسية وكانت الملكة الثانية في بلاط العباسيين بعد الخيزران. ففي عصر الرشيد زاد اقبال الناس على الجواري وتعليمهنّ ودفع الاثمان الباهظة في شرائهنّ وقد اثر ذلك على مختلف جوانب الحياة مما ادى إلى زيادة تحرّر المرأة واندفاعها للمشاركة في شؤون الحياة المختلفة.
ويلاحظ الباحث ان دخول النساء في الاحزاب قد تراجع في العصر لعباسي عما كان عليه الوضع ايام الامويين كما تراجعت مشاركة المرأة في القتال، ربما اعتماد الدولة على العناصر غير العربية كمقاتلين. ويؤكد الباحث ان تدخل زبيدة في عصر الرشيد جعله من ازهى عصور الخلافة العباسية، فزبيدة تتابع والرشيد دائم البحث عن اسرار رعيته يساعده في ذلك عيونه واصحاب اخباره في جميع الولايات. اما المأمون (198-218) فقد اعتمد على العنصر النسائي ليس في أخذ المشورة ولكن في تسيير اعماله، ففي نزاعه مع الامين كان يرسل بريده مع النساء، يضعن البريد داخل اعواد منقورة من المكاف (نوع من الشجر) ولم يقتصر اعتماده على النساء في نقل البريد فحسب، بل كان يرسل النساء والرجال متنكرين في زي التجار او الاطباء وكان يفضل استخدام العجائز في هذه المهمات اذ يذكر النويري ان العجائز كن يأتينه كل مساء بتقارير مفصلة تتعلق بأخبار الناس وأخبار اللصوص والفساق. وذكرت بعض المصادر ان عدد هؤلاء العجائز يقارب الالف عجوز ويستنتج الباحث في نهاية هذا الفصل ان تعاون الخلفاء مع بعض النساء وافساح المجال امامهن للمشاركة في شؤون الدولة اثبت ان المرأة مثل الرجل قادرة على تصريف شؤون الدولة والاعتماد عليها.
2 ـ وينطبق ذلك على العصر العباسي في عهد الخليفة المهدي حيث سيطرت عليه جاريته الخيزران وهي أم الهادي والرشيد ، وأم كل الخلفاء العباسيين اللاحقين ،إذ يرجع نسبهم إلى الرشيد .وقد سيطرت الخيزران على عقل المهدي حتى اعتقها وتزوجها ، وسيطرت على مقاليد الأمور في عهده ، ثم حاول ابنها الهادي تقييد سلطتها فقتلته شابا ثم ظلت تسيطر على ابنها هارون الرشيد والدولة العباسية إلى أن ماتت في خلافة ابنها الرشيد .
وعلى دربها سارت جواري أخريات ، كل منهن سيطرت على الخليفة - باستثناء قلة قليلة من الخلفاء - وأشهرهن قبيحة محظية الخليفة المتوكل التي تسببت في موته حين جعلته يقدم ابنها المعتز على أخيه المنتصر فدفعت المنتصر إلى قتل أبيه المتوكل . ثم قتل المنتصر وتولي المعتز بن قبيحة ، فسيطرت عليه إلى أن أوردته مورد التهلكة .ومنهن ( شغب ) أم الخليفة المقتدر التي سيطرت عليه وعلى الدولة العباسية الى درجة انها جعلت وصيفتها تتولي منصب قاضى القضاة .
وهناك عشرات الجواري والمحظيات الأخريات اللاتي مارسن نفوذهن القوى من وراء ستار، ثم فقدن نفوذهن بعد ممارسة سياسية طالت أم قصرت، ولكن كن في موقع التأثير لفترات طويلة أو قصيرة . كل ما هنالك أن نفوذهن كان مستورا ، لم يتضح أثره علنا في الشارع ، بحيث أن الوفود لم تكن تأتي إليهن تطلب الوسطات والشفاعات كما كان يحدث في عصر الخيزران أو أم المقتدر ، فتلك النوعية من الجواري المحظيات كن يمارسن النفوذ من خلال الغرف المغلقة وقاعات الحريم .. ولم يكن مسموحا لأسماع التاريخ أن تتسلل وتتنصت في تلك المناطق المحرمة.وإن كان في أمكان الباحث التاريخي أن يتلمس أثرهن في ضعف شخصية الخليفة العباسي - مثلا- منذ القرن الثالث الهجري ، ويمكن أن نأخذ مثالا محزنا لهذا الضعف في نهاية آخر الخلفاء حين جيء به إلى هولاكو ، ورغم أن الخليفة المستعصم كان مشهورا بالبخل وحب المال إلا أنه أرشد هولاكو إلى نهر مطمور في القصر من الذهب المتجمد ، ومع ذلك فانه بكي حين أخذ هولاكو يستعرض جواري الخليفة الحسان وعددهن (700 ) زوجة وسرية وألف خادمة ، وأخذ الخليفة يتضرع إلى هولاكو قائلا " منّ على بأهل حرمي اللائي لم تطلع عليهن الشمس والقمر " .
إن الرجل حين أهان المرأة وجعلها جارية للمتعة فقط وتناسى أن لها عقلا وكيانا إنسانيا فأنه في نفس الوقت أتاح لها الفرصة لكي تتحكم فيه. والتاريخ العباسي خير شاهد على هذا وإن لم يكن التاريخ الوحيد في هذا الشأن. وجدير بالذكر أن الخليفة السفاح تمسك بزوجة واحدة ولم يكن له غيرها من النساء الحرائر أو الجواري ، والخليفة المنصور ظل بزوجة واحدة إلى أن ماتت ولم يسمح بأي نفوذ في عهده لأي إنسان ذكر أو أنثى ..وقد قام توطيد الدولة العباسية على يد السفاح والمنصور، وبعدها أصبح الفراغ كبيرا أمام الخلفاء اللاحقين ، وقامت الجواري الحسان بقضاء وقت الفراغ للخلفاء ، وبقدر ذلك الفراغ كان نفوذهن الذي تقاصرت الروايات التاريخية عن توضيحه .
هند يوسف مجيد السامرائي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يرجى التكرم بالالتزام بقواعد حرية الراي وحقوق النشر