الكلمات غير العربية في القرآن
بحث في الإشكاليات اللغوية في القرآن
ذهب بعض القدامى إلى أن بالقرآن كلمات غير عربية، منهم السيوطي والجويني وابن النقيب وفقا للسيوطي[513] والراغب الأصفهاني[514]؛ منها: "الطور" (جبل بالسريانية)، و"طفقا" (قصدا بالرومية - يقصد اليونانية)، و"القسط"، و"القسطاس" (العدل بالرومية) "إنا هدنا إليك" (تبنا بالعبرية)، و"السجل" (الكتاب بالفارسية)،
و"الرقيم" (اللوح بالرومية)، و"المهل" (عكر الزيت بلسان أهل المغرب)، و"السندس" (الرقيق من الستر بالهندية)، و"الإستبرق" (الغليظ بالفارسية بحذف القاف)، و"السرى" (النهر الصغير باليونانية)، و"طه" (أيْ طأ يا رجل بالعبرية)، و"يصهر" (أي ينضج بلسان أهل المغرب)، و"سينين" (الحسن بالنبطية)، و"المشكاة" (الكوة بالحبشية)،
و"الدري" (المضيء بالحبشية)، و"الأليم" (المؤلم بالعبرية)، و"ناظرين" (إناه أي نضجه بلسان أهل المغرب)، و"الملة الآخرة" (أي الأولى بالقبطية)، و"وراءهم ملك" (أي أمامهم بالقبطية)، و"اليم" (البحر بالقبطية)، و"بطائنها" (ظواهرها بالقبطية)،
و"الأب" (الحشيش بلغة أهل المغرب)، و"إن ناشئة الَّيل"، قال ابن عباس، و"نشأ" بلغة الحبشة = قام من الليل، و"كفلين من رحمته" (ضعفين بلغة الحبشة)، و"القسورة" (الأسد بلغة الحبشة)، وقال الزمخشري أن التوراة والإنجيل أعجميان ورجّح ذلك بقراءة "الأنجيل" بالفتح[515].
وذُكر منها أيضا: سجيل، أباريق، زنجبيل، طاغوت، عدن، فرعون، فردوس، ماعون، التنور، أسباط، أسفار، إصري، أليم، أكواب، إلا، إناه، آن، آنية، أواب، سلسبيل، مرجان، مرج (أصلها فارسي حسب الجواليقي)، سجين، عليين، أبابيل، قسورة، حنانا، الرقيم،
غسلين، سريا، فرقان، رحمن، آمين، بيعة، قبس (أصلها مصري)، سورة (أصلها سرياني)، أواه (نُسب لابن عباس أنها حبشية معناها موقن، أو مؤمن)، واسماء أعلام كثيرة؛ منها إبراهيم، ونوح، وعزير، وجبريل.. إلخ. بل وكلمة "قرآن" نفسها يحتمل أن تكون من أصل سرياني (قريانا) وسوف نخصها بالبحث بعد قليل.
كما اعتبر بعض المستشرقين كلمة "مثاني" و"المثاني" مشتقة من كلمة "مشنا" العبرية وآخرون اعتبروها مشتقة من "ماثنيتكا" الآرامية.. ويبدو أنها لم تُستخدم في العربية قبل القرآن مثل كلمات أخرى عديدة، ولكن في الغالب لها أصل عربي، وقد جاءت بعض اشتقاقاتها في القرآن:
"ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتـٰب منير * ثاني عِطفه ليضل عن سبيل الله" (سورة الحج: 8-9)، و "ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه" (سورة هود: 5). وقد اختلف المفسرون حول ما هيَ المثاني وعلى معناها وأصلها (الفاتحة، السبع الطوال، لا إله إلا الله محمد رسول الله، حم لأنها جاءت في أول 7 سور، الحروف في أول السور مثل "ألم").
وقد ثار خلاف بين المفسرين واللغوين حول كلمة "إلَّا" الواردة في: "لا يرقبوا فيكم إلَّا ولا ذمة" (سورة التوبة: 8)، "لا يرقبون في مؤمن إلًّا ولا ذمة" (سورة التوبة: 10). والمعروف أن كلمة "إل"، أو "إيل" تعني إله، أو الرب في اللغات السامية، وهو الإله الأعلى؛ كلِّيُّ القدرة في ديانات الساميين القدامى؛ خاصة الكنعانيين، وكذلك الآراميين والهكسوس.
ومنسوبا له أسماء الملائكة مثل جبريل وعزرائيل.. إلخ. وقد استخدمت الكلمة في التوراة كاسم لإله الكنعانيين الذي صار إله العبرانيين وسمَّى نفسه "يهوه"، كما اعتبره العرب رب العالم وأسموه "الله". وفي العربية الباقية لم يتم استخدام "إل" بمعنى الله إلا نادرا؛ من ذلك الحديث المنسوب لأبي بكر الصديق حين سمع سجع مسيلمة: "هذا كلام لم يخرج من "إل"، ولم يصف القرآن الله باسم "إل"، ربما على أساس أن اللفظ تحور إلى "الله".
ومع ذلك اعتبره مجاهد .رية تعني صديق الرب معنى الإله ةمن أسماء الله الحسنى حسب ما قال القرطبي[516]، وهو ما رفضه بقية المفسرين. وأسماء الملائكة المنسوبة "لإل" ممنوعة من الصرف مما يرجح أنها أجنبية الأصل وقد جاءت كلمة "إل" في القرآن (حفص) غير منونة وهذا يرجح دون أن يؤكد أن تكون أجنبية، حيث تم تنوين الممنوع من الصرف في بعض المواضع لمراعاة الوزن أو السجع. لكن يحتمل أيضا أن تكون مشتركة في اللغات السامية.
وقد فسر البعض كلمة "إل" بمعنى القرابة، الحلف، العهد، الجار، الجهر بالصوت... إلخ[517]. وقد استخدمها تميم بن مقبل وحسان بن ثابت في الشعر بمعنى القرابة أو العهد[518]:
قال تميم:
أفسد الناس خلوف خلفوا... قطعوا الإل وأعراق الرحم
وقال حسان بن ثابت:
لعمرك إن إلك من قريش... كإل السقب من رأل النعام
وقال آخر:
وجدناهم كاذبا إلهم ... وذوالإل والعهد لا يكذب[519]
ومعنى العهد ليس بعيدا عن معنى الإله فيقال: فلان لا يراعي الله في تصرفاته؛ والمقصود أحكامه وتعاليمه أو عهده.
وقد ذهب الراغب الصفهاني مذهبا مختلفا، فاعتبر "الإلّ" كل حالة ظاهرة من عهد حلف وقرابة: تئلّ: تلمع، وأَلَّ الفرس، أي: أسرع، والإلَّة: الحربة اللامعة، وأَلَّ بها: ضرب، ورفض اعتبار إلّ وإيل اسم الله، وأذن مُؤَلَّلَة، والأَلَالان: صفحتا السكين[520].
ومثله ذهب الزجَّاج[521] فقال: وحقيقة الإلّ عندي على ما تُوحيه اللغة تحديد الشيءِ فمن ذلك: الإلَّةُ: الحربة، لأنَّها محدَّدَة، وهو ينفي حقيقة مؤكدة ومعروفة جيدا؛ أن إيل وإل تعني الرب في اللغات السامية وقد استخدمت في التوراة بهذا المعنى مرارا.
خلاصة ذلك أن المعنى الذي استخدم به لفظ "إيل" أو "إل" في القرآن وهو القرابة أو العهد قد يكون ضمن معانيٍ عدة للفظ وهو لفظ سامي قد يكون مشتركا بين تلك اللغات أو انتقل من إحداها للعربية.
في الحقيقة وجود كلمات من أصل غير عربي في العربية أمر متوقع تماما بحكم اختلاط البشر وتأثرهم ببعض كما أسهب الخفاجي[522] والجواليقي[523] وقد استعرض الجواليقي نحو 730 كلمة استعارتها لغة العرب وعربت بالفعل بخلاف الكلمات الدخيلة التي لم تعرب جاء بعض منها في القرآن.
وقد رد بعض ما أورده الجواليقي إلى العربية الدكتور عبد الجليل عبد الرحيم كما استعرض بشيء من التفصيل كثير من الكلمات الدخيلة من مختلف اللغات[524].
ومن الأمثلة في شعر المعلقات[525]:
مهفهفة بيضاء غير مفاضة ... ترائبها مصقولة كالسجنجل (امرؤ القيس)
وتضيء في وجه الظلام منيرة... كجمانة البحري سلَّ نظامها (لبيد بن ربيعة)
حَذَرَ الجَورِ والتعدي وهل ينـ ... قض ما في المهارق الأهواء (الحارث بن حِلِّزة)
وهناك فريق رأى أن بالقرآن كلمات غير عربية، ومن أسانيد هذا الفريق ما رُويَ عن ابن عباس ومجاهد وابن عكرمة وعطاء وغيرهم من الثقاة أنهم قالوا بذلك، وما اتفق عليه النحاة على منع صرف كثير من الأسماء الموجودة في القرآن لأنها أعجمية.
أما أغلب القدامي؛ منهم ابن جرير وأبو عبيدة والقاضي أبو بكر والشافعي وابن فارس، فقد رفضوا الفكرة تماما[526] باعتبار القرآن نزل بلسان عربي مبين وما به من كلمات تبدو غير عربية هيَ مما توارد من كلمات في سائر اللغات.
كما ذهب معظم اللغويين العرب نفس المذهب، وهذا ما يفسر لجوءهم في تعليل وصرف الكلمات في حدود افتراض أصلها العربي الخالص دونما اعتبار لاحتمال منشئها غير العربي.
وهناك من ذهب إلى حل وسط؛ فالعربية قد امتصت كلمات غير عربية وأدمجتها في منظومتها فصارت عربية كما يحدث في كافة اللغات الحية. وهذا رأي القاضي عبد الجبار كما أشار لويس عوض[527]، وأبو عبيد القاسم بن سلام وفقا لابن فارس[528]، الذي قال:
والصواب عندي مذهب فيه القولان جميعاً وذلك لأن هذه الأحرف أصولها أعجمية كما قال الفقهاء، ولكنها وقعت للعرب فعربتها بألسنتها وحولتها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها، فصارت عربية، ثم نزل القرآن، وقد اختلطت هذه الحروف بكلام العرب، فمن قال إنها عربية، فهو صادق، ومن قال إنها أعجمية فصادق.
وتم تعريب الكلمات باستبدال حروف والحركات وتبديل الأساليب الصوتية ليصبح اللفظ متسقا مع بنية اللغة.
وقد انقسم المحدثون بنفس الطريقة؛ من الاتجاه الأول رمضان عبد التواب ومن الثاني أحمد شاكر ومن الثالث طاهر حمودة.
لكن العلوم اللغوية الحديثة أتاحت إمكانة أكبر لتحليل أصول الكلمات ومنبتها وإذا ما كانت قد انتقلت من هذه اللغة إلى تلك، أو العكس بناء على تحليل العائلات اللغوية ومعرفة بنيتها ومختلف فصائلها وحركاتها التاريخية،
بخلاف القدامي الذين اعتمدوا على الظن والترجيح وثرواتهم اللغوية الشخصية، ومما يضعف افتراضاتهم أن العربية لم تكن لغة موحدة منذ نشأتها ومازالت هناك كثير من الألسنة[529].
وهناك عديد من محاولات المحدثين البرهنة على أن عربية القرآن صافية باستخدام العلوم الحديثة وكأن وجود كلمات أعجمية بالقرآن يقلل من عروبته التي نص عليها.
أما أن القرآن بلسان عربي مبين وعدم وجود ما يدل على اعتراض الكفار على ذلك فيعني لنا أنه قد تم بالفعل تعريب كلمات غير عربية (الرأي الثالث) كما بقيت غيرها غير معربة منها أسماء بعض الأعلام؛ مثل: نوح، إبراهيم، لوط، إسرائيل، جبريل، وغيرها مثل آمين، بيعة... إلخ، وأنها استخدمت بدون تحفظ. أما تحديد ما هيَ هذه الكلمات في القرآن فما زال موضع خلاف بين علماء اللغة.
ومن المرجح أيضا أن خلطا قد تم بين بين اعتبار بعض الكلمات من أصل أجنبي، أو من بين ألسنة العرب، أو من أصل عربي جرى عليه التطور التاريخي، وهناك كلمات مشتركة بين اللغات السامية ربما اعتبرها البعض غير عربية مثل: جهنم، حور، خاتم، سفر، شهر، يم[530].. إلخ.
وهناك من الكلمات الدخيلة التي اعتبرها علماء العربية والمفسرون من كلام العرب وترتب على هذا تغيير كبير في المعنى والاستخدام. من ذلك كلمة "جو" في الآية: "ألم يروا إلى الطير مسخرٰت في جو السماء ما يمسكهن" (سورة النحل: 79)؛ فقد اعتبروا معناها: الهواء المحيط بينما هيَ – كما أشار كريستوف لوكسنبرج[531] -
كلمة سريانية معناها الدخيلة، أو الباطن، ويمكن استخدامها أيضا كحرف جر بمعنى داخل وهو ما يُستخدم في العامية: جوا البيت وهو المعني الأكثر اتساقا مع الآية: فالطيور داخل السماء وليس خارجها. ولكن قراءة الكلمة القرآنية بمعنى هواء هو الذي ساد وأصبح جزءا من العربية (يقال كما أشار لكسنبورج: البريد الجوي، القوى الجوية... إلخ).
ونخص بالاهتمام هنا كلمة القرآن التي أثارت كثيرا من الجدل:
جاءت الكلمة في الكتاب المقدس 70 مرة كإشارة لما جاء به النبيّ كوحيِّ.
وفي هذه الآية ميز بين الكتاب والقرآن بوضوح: "تلك ءايـٰت الكتـٰب وقرءان مُّبين" (الحجر: 1).
المفهوم من الآية أن القرآن صفة للكتاب المقدس، أو اسم خاص له مثل التوراة والإنجيل.
وقد تقبل الباحثون الغربيون عموما اقتراح ف. شوفالي باعتبار الكلمة من أصل سيرياني؛ كلمة قريانا Keryana التي تعني الكتاب المقدس[532]، أو قراءة الكتاب المقدس.
وفي رأي أغلب علماء الإسلام أصل الكلمة هيَ قراءة وقد قُرأت الكلمة بالهمزة بينما قرأها البعص بدون الهمزة منهم أبو قتادة وأبو عبيدة[533].
وممن قرأوها كذلك بدون همزة: الشافعي؛ فاعتبر الكلمة غير مشتقة وهي أرسلت من الله لرسوله لتعني الرسالة المقدسة[534]، فليست إذن منقولة من لغة أخرى ولا مشتقة من كلام العرب، فلو كانت مشتقة من "القراءة" لسُمي كل كتاب مقروء قرآنا.
وهو رأي شديد الوجاهة، ولكن ما المانع أن يُسمى كل كتاب مقروء قرآنا كما نسمي أي كتاب كتاب؟ لكن اعتاد الناس أن يقولوا القرآن وصفا لقرآن المسلمين واعتادت جماعات من الناس قول الكتاب بألف لام التعريف وصفا لكتاب معروف لديهم.
وقيل إن الشافعي كان يقرأ "قرأت" بالهمز ولا يهمز "القران"، مما اعتُبر أن "القران" اسم علم وغير مشتق[535]. ولكن بما أن الكلمة موجودة أصلا في لغة أقدم من العربية فما يمنع أنها قد نقلت منها مباشرة؟ خصوصا أنها لم تكن مستخدمة في كلام العرب قبل أن استخدمها النبي محمد.
وحسب الزركشي قال القرطبي إن "القران" بغير همز مشتق من "القرائن" لأن الآيات منه يصدق بعضها بعضا ويشابه بعضها بعضا فهيَ حينئذ قرائن[536]. ولكن هذا يعني إطلاق اسم "قران" على أي كتاب مشابه.
وأبو الحسن الأشعري بالذات اعتبر الكلمة مشتقة من "قرن" بمعنى ضم الشيء وجمع بعضه إلى بعض[537]. وكذلك ذهب أبو عبيدة[538].
أما أغلب علماء الإسلام فقرأوا الكلمة بالهمزة؛ فاعتبرها الزجَّاج مشتقة من القراءة بمعنى الجمع، مثل جمع الماء في الحوض، واعتبرها أبو الحسن اللحياني مشتقة من قراءة بمعنى تلاوة، على وزن غفران.
ويُلاحظ أن كلمة "قرأ" في العربية لا تعني دائما قراءة كلمات مكتوبة فيقال في العربية: قرأ عليه السلام: أبلغه السلام، وهي أيضا تفيد التلاوة، أو الأداء؛ مثل: قرأ علامات الغضب على وجهه: أيْ لاحظها، قرأ القرآن عن ظَهْر قلب: حفظًا دون كتاب، قرأ الغيب: تكهن به، قرأ ما بين السطور: فهم الأمر المضمر،أو استشف المعنى الضمني، قرأ على فلان النحو: درسه على يديه، قرأ للمستقبل حسابه: احتاط له، قرأ ما في ذهنه: استشف ما يفكر فيه.
وتتضمن كل المعاني السابقة الكشف والتبيان، وفي آيات عدة جاءت "قرآن" بمعني ظاهر هو التلاوة التي هيَ بطبيعتها عملية معلنة. وقد جاءت كلمة قراءة حسب بعض علماء اللغة من الآرامية[539].
وقد رد ابن قيم الجوزية بإسهاب على من قال بأنها تعني الضم، أو الجمع: قال ما معناه: القَرء ليس مشتقا من الجمع، فالمشتق من الجمع هو من الفعل المعتل: قرى يقرى، أما القرء فهو مهموز من قرأ يقرأ، وهما أصلان مختلفان؛ فيقولون: قريت الماء في الحوض أقريه، أيْ: جمعته، ومنه سميت القرية.
وأما المهموز "قرأ"، فيعني الظهور والخروج على وجه التوقيت والتحديد، ومنه قراءة القرآن، لأن قارئه يظهره ويخرجه مقداراً محدوداً ويدل عليه قوله: "إن علينا جمعه وقرءانه" (القيامة: 17)؛ ففرق بين الجمع والقرآن. وعلى ذلك يُقال: فلان يقرؤك السلام، ويقرأ عليك السلام، هو من الظهور والبيان[540].
وقد ذكر القرآن نفسه كلمة قرآن في أحد المواضع بمعنى تلاوة: "لا تحرك به لسانك لتعجل به * إن علينا جمعه وقرءانه * فإذا قرأْناه فاتبع قرءانه * ثم إن علينا بيانه" (سورة القيامة: 17-19)، والظاهر من المعنى هنا أن قرآنه الأولى تعني تلاوته (يقصد على لسان جبريل)، وما يؤكد ذلك بقية الآية: فاتَّبِع قُرْآنه أي اتبع تلاوته.
و"قرآنه" في الآيتين جاءت بمعنيين يختلفان عن كلمة "القرآن" ويمكن استخدامها فيما يخص غير القرآن حسب ظننا رغم أن كلمة "قرآن" تخص الكتاب المقدس وحده كاسم له كما قال الشافعي سواء قُرأت بالهمزة، أو بدونها. وقد شرح الآية الفرَّاء هكذا: إذا قرأه عليك جبريل عليه السلام فاتبع قرآنه، والقراءة والقرآن مصدران، كما تقول: راجح بين الرجحان والرجوح. والمعرفة والعرفان، والطواف والطَوفان[541]. وهو شرح له وجاهته.
ومما يرجح عربية كلمة "قرآن" شيوع استخدام صيغة فُعْلان في العربية[542]، وهو من المصادر السماعية؛ أي لا تخضع لقياس صرفي عام[543]؛ مثل: فرقان، قربان، سلطان، سودان، عدوان، طوفان، برقان، ورلان، شُبَّان، بركان، سُبحان... وقد أسهب سيبويه في تناولها.. وقد ذُكر كثير منها في القرآن وهي تكون اسما، أو صفة.
خلاصة: كلمة قرآن كلمة عربية سواء بالأصل، أو بالتعريب استخدمت لأول مرة في القرآن؛ قد تكون مشتقة من "قراءة" وتم نحتها لتعبر عن أكثر من معنى حسب موقعها في الكلام: كتسمية للكتاب المقدس وكصفة له، أو بمعنى التلاوة. أو تمت استعارتها من الآرامية وتعريبها بتحويلها من قريانا إلى قرآن واشتقاق كلمات أخرى تشبهها. أما "يقرأ" فهي آرامية الأصل في الغالب بمعنى "يتلو". وهناك احتمال أن تكون مشتركة بين العربية والآرامية.
**********************************
26- فواتح السور:
وهي 15 كلمة مذكورة في أوائل السور وهي 14 حرفا جاءت في أوائل 29 سورة وقد تكرربعضها خصوصا "حم".
ومنذ القدم احتار الإسلاميون والمستشرقون في تفسير هذه الفواتح ومعناها وقيل فيها الكثير والكثير.
ونحن نهتم هنا بالقيمة اللغوية لهذه الفواتح.
الاجتهادات اللغوية بهذا الخصوص محدودة؛ منها ما ذكره نولدكه من أن هذه الفواتح قد تمثل أسماء من جمعوا السور ثم اعتبر هذا الاحتمال غير أكيد بسبب صعوبة تفسير ذلك لكلمات طويلة مثل كهيعص، و حمعسق[544].
وقد اعتبرها البعض سرا، أو بأنها أسماء سرية للنبي لا يجوز السؤال عنها، كما فسر بعضها على أنه كلمات لها معنى ومنها كلمة "طه" التي تعني "طأ يا رجل"
بالعبرية[545]، وهي تُستخدم كاسم علم وتُعامل على أنها ضمن أسماء الرسول، وكلمة "يس" قد تكون تحويرا لكلمة سنSin التي تعني إله القمر وهو أحد آلهة شمال جزيرة العرب[546]، كما أن القمر يتمتع بالاحترام في الإسلام في صورة الهلال ويعد أحد رموز الديانة، أو تحويرا ل "سين" Syn وهو إله جنوبي وهو إله الشمس[547]، أو اختصارا لاسم "ياسين"، خاصة أن البعض قرأها "ياسين والقرءان"[548]، وياسين في القرآن هو النبي إلياس.
واعتبر السيوطي أن طس وحم هيَ أسماء أعجمية[549]، وقد قرأ البعض "طاسين"[550]. وذكر آرثر جيفري نقلا عن [551]Schwally أن "ن" في أول سورة ن تعني السمكة في لغات الشمال السامية مشيرا أيضا إلى تفسير البيضاوي[552]، وقد فسرها القرطبي نفس التفسير: والحوت هو النون الذي ذكر الله تبارك وتعالى في القرآن بقوله: "نْ والْقَلَمِ"، كذلك ذهب ابن كثير في تفسيره.
وقيل أن ابن عباس قد اعتبر تلك الفواتح أقسام أقسم بها الله، وهي من أسمائه، وأن ابن مسعود اعتبر "الم" اسم الله الأعظم[553]. وهذا رأيٌ لم تـأخذ به الغالبية العظمي من أهل التفسير.
ولجأ البعض إلى مسألة الإعجاز العددي لتعليل وجود هذه الفواتح، كما اعتُبرت المقصودة بالسبع مثاني المشار إليها في القرآن.
كما اعتبرت اختصارا لعبارات مثل: أ ل م = أنا الله أعلم، ا ل ر: أنا الله أرى... إلخ[554]، أو اعتبار كلمات مثل: الر، حم، ن، تساوي كلمة الرحمن[555]، بدون أي تدليل على هذا. ونُسب لابن عباس القول بأن كهيعص في بداية سورة مريم تشير إلى خمس من صفات الله؛ الكريم، والهادي، والحكيم، والعليم، والصادق. وكذلك ترمز "المص" إلى أنا الله الرحمن الصمد[556].
لسنا في معرض تفسير معاني هذه الفواتح ولكن الواضح أنها من الناحية اللغوية ليس لها معنى محدد، أو مفهوم بشكل مؤكد ويمكن اعتبارها شيء يشير إلى وجود أسرار ما في القرآن؛ خاصة أنه ليس مجرد كتاب في التعاليم الدينية بل يمتلئ بالحكم والمواعظ والعبر وهو بهذه الفواتح يحاول الإيحاء بوجود علاقة سرية بين النبيّ والله ولغة خاصة بينهما وبالتالي فهو يتلقي وحيا وأسرارا، وهو دور ربما قامت به أيضا الكلمات الأجنبية والغريبة و"الشاذة" كما نعتوها.
**********************************
27- كسر حرف المضارع (التلتلة) والأسماء:
وجد كسر الفعل المضارع في العبرية والسريانية والحبشية حسب أبحاث المختصين[557].
وقد نطقت بعض قبائل العرب بهذه الطريقة وقرأت القرآن بها. حسب أبي زكريا الفرَّاء[558] كل من قيس وتميم وربيعة ومن جاورهم، يكسرون أوائل الحروف، فيقولون للبعير: بِعير وللئيم لِئيم، وللبَخيل بِخيل..
وقد قرأت القراء في نِستعين وفي غيرها بالكسر؛ من ذلك: أنهم قرءوا: ولا تِركنوا، و ما تِشاءون، تِخافون، و مالك لا تِيمنا على يوسف، و ألم إِعهد إليكم، و قبل أن إِيذن لكم، يوم تِبيض وجوه وتِسود وجوه.
من خلال استقراء الشواهد الواردة في لهجات القبائل العربية وجدُ أنَّ الكسر يشمل جميعَ أحرفِ المضارع (أ،ن،ي،ت) ولم يقتصر على حرفٍ دون آخر[559].
وممن يكسرون المضارع أسد وكلب وقيس وعامر[560]، وقبيلة بهراء[561].
وحسب سيبويه كان كسر أول الفعل سائدا عند العرب ماعدا أهل الحجاز وهو الأصل [562].
وردت بعضُ قراءاتِ القرآن موافقةً مع كسر حرفِ المضارع وأشهرُ تلك القراءات ما ورد في: إِيَّاكَ نَــــــعْبُدُ وإِيَّاكَ نَــــــسْتَعِينُ (الفاتحة: 5)؛ حيث قُرأت بكسر النون:
نـِعبد[563]. ونـِـسْتَعِينُ كذلك وهي حسب قوله لغة قيس وتميم وأسد وربيعة[564]، ولا تِركنوا إلى الذين ظلموا فتِمسكم النار (هود: 113). جاءت في بعض القراءات الشاذة[565]. وتكرركسر تاء المضارعة في بعض القراءات: "يَومَ تِـــبْيَضُّ وجُوهٌ وتِــــسْودُّ وجُوهٌ" (آل عمران: 106).
أما حرفُ المضارع بالهمزة فقد جاء مكسوراً في: "فكيف ءاسَىٰ على قومٍ كـٰفرِين" (الأعراف: 93)، حيث قُرىء الفعلُ المضارع "إيـِسي".. وفي العامية المعاصرة نجد التلتلة واسعة الاستخدام: ومن ذلك يـِسمع، يِضرب، يِسرق.. إلخ على سبيل تخفيف النطق. وحتى في الفصحى نجد آثارا للتلتلة:
قال العباس بن مرداس:
قد كان قومك يحسبونك سيدا... وإِخالُ أنك سيد معيون[566]
ولا توجد هذه الظاهرة في رواية حفص؛ متبعةً لغة قريش.
****************************
28- القراءة السيريانية للقرآن - جهود كريستوف لوكسنبرج[567]:
بذل هذا الباحث الألماني جهدا لإعادة قراءة القرآن على ضوء تأثر لغته باللغة السائدة شمال الجزيرة العربية وفي الهلال الخصيب وقت كتابته؛ السريانية وهيَ لهجة آرامية، وبدون الالتزام بسيبويه ولا بالتفسيرات العربية وغير العربية، محاولا البرهنة على أنه كتب بلغة هجينة من العربية والآرامية. والفكرة الأساسية له هيَ أنَّ كثيرا من الآيات الغامضة والمبهمة في القرآن يمكن فهمها بشكل أفضل إذا تمت قراءة بعض الكلمات قراءة سريانية.
وقد سار الباحث بالابتداء بتفسير الطبري ثم الرجوع إلى لسان العرب لابن منظور، ثم تغيير نقاط الحروف في حدود القراءة العربية ثم تغيير نقاط الحروف بهدف إيجاد مصدر لقراءة سريانية ثم في ترجمة التعبير العربي إلى السريانية لاقتباس مفهوم هذا التعبير من معانى مرادفه السرياني.
ورغم المبالغات – حسب ظننا – قدم تعليلات معقوله للغاية بمنهجه الفريد لعبارات قرآنية شديدة الغموض لم ينجح أحد في تفسيرها بطريقة تتسق مع منهج ومعاني الكتاب. من أمثلة ذلك:
الآية 64 من سورة الإسراء[568]: "واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك وشاركهم في الأموال والأولـٰد وعدهم وما يعدهم الشيطـٰن إلا غرورا". وموضوع الآية أن الله بعد أن طرد إبليس من الجنة فاستأذن منه الأخير أن يسمح له أن يجرب الناس إلى يوم الدين، فأذن له. وحسب الطبري "استفزز" بمعنى أفزع بصوتك، مع أن الإفزاع بالصوت يناقض المفهوم القرآني القائل بأن إبليس يوسوس في صدور الناس.
وأشار لوكسنبرج إلى أن لسان العرب يشرح استفزه بمعنى ختله حتى ألقاه في مهلكة، وهو تعريف لم يكن مستخدما في الفترة التالية مباشرة للقرآن مما يعني أنه مصطنع، ولذلك قرأها: "استفرر" بمعنى ابعدهم، أو اشغلهم عني. أما "وأجلب عليهم بخيلك ورجلك" فشرحها الطبري بمعنى الهجوم على الناس بجلبة لتخويفهم بالخيالة والمشاة، بما يخالف أيضا المعنى القرآني للوسوسة.
وعلى هذا قرأها لوكسنبرج أخلِب عليهم بحيلك ودجلك؛ بمعنى الاحتيال، مما يتوافق والمنطق القرآني. أما وشاركهم بالأموال والأولاد فقد أثارت استغراب المفسرين؛
ففسرها الطبري بمعنى مشـاركة إبليس الناس بمال الحرام وأولاد الزنى، بينما فسرها لوكسنبرغ بالأخذ في الاعتبار أن الشَرك والأشراك بالعربية مشتق من سـرك بالسريانية وهي بمعنى أغرى؛ مستشهدا لذلك بالحديث النبوي: أعوذ بك من شرّ الشيطان وشَرَكِه.
فيكون قصد القرآن أن إبليس يغري الناس بوعده الكاذب وخداعه لهم بالمال والبنين وليس بمشاركته إياهم بهم، مما يتسق مع آخر جزء من الآية: "وعدهم وما يعدهم الشـيطن إلا غرورا".
ومن الأمثلة الأخرى حل إشكالية كلمة "قسورة" في سورة المدثر: "فما لهم عن التَّذكرة معرِضين" * كأَنهم حُمُر مُستنفرة * فرَّت من قسورة". إذ ذهب المفسرون إلى أنها كلمة حبشية تعني الأسد، ثم جاء المفسرون الغربيون فبحثوا في أصل هذا التعبير ولم يجدوا له اشتقاقا من الحبشية،
وقد توصل لوكسنبرج إلى أن الكلمة سريانية يفيد معنى الحمار العجوز الضعيف واستعان بلسـان العرب، الذي أشار إلى أن أهل البصرة يقولون للمرذول ابن قَوْصَرة qausara والأصح قُوْصْرَة qusra بمعنى القاصر، أو الفاشل ومع تغيير الرسم القرآني من قسورة إلى qasora يصبح معنى الآية فرار الحمير من دابة هرمة لا يجب أن يُهرب منها وهو ما يتسق أكثر مع روح الآية[569].
ومن السور التي صعب تفسيرها تفسيرا مقنعا سورة الكوثر: "إنا أعطيناك الكوثر* فصلِّ لربِّكَ وانحر * إن شانئك هو الأبتر". توصل لوكسنبرج إلى هذا التفسير: إِنّا أعطيناك مَزِيَّةَ الإصْرَار*فصلِّ لربِّك وثابر (في الصلاة)*إنَّ شَانِئُكَ (الشيطان) هُو الأبترْ (المهزوم)، بعد إعادة قراءة السورة كالآتي: إنا أعطينك الكوثر، فصل لربك وانجر، إن سانيك هو الأبتر[570]، وهو تفسير أكثر إقناعا من التفسير الإسلامي الشائع لكنه غير قائم على تحليل لغوي سليم بل مجرد ادعاء[571].
وقد أشرنا من قبل إلى تفسيره ل: "ألم يروا إلى الطير مسخرٰت في جو السماء ما يمسكهن" (سورة النحل: 79).
وبنفس المنهج راح لوكسنبرج يحلل كلمات كثيرة من غريب القرآن مثل: حور – يلحدون – الحوايا – رقيم – زنيم – حنيف – سريا- ناديه - ناصية.. إلخ.
وقد ذهب لوكسنبرج بعيدا أكثر مما ينبغي في قراءة القرآن قراءة آرامية؛ منها: التعسف في قراءة: سندع الزبانية وتغييرها إلى: He will (only) call upon a transitory God بمعنى سيدعو إلها زائلا، أو غير أصيل (ص319).
وكذلك تفسيره الغريب (ص ص 192-195) للآية 259 من سورة البقرة:
" أو كالذى مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنىٰ يحي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما"..
وهي واضحة بما فيه الكفاية وبلغة العرب ولا يوجد غموض يبرر اللجوء إلى قراءتها بالسريانية. هناك أيضا إصراره على قراءة كلمة "،ََهُمْ عَنِرِضِينَ (49) كَأَنَّلغة قريش.ت أو انتقل من إحداها للعربية.دامه لدى العرب، ربما لأنه تحول إلى "الله".
ءاذنَّٰك" وتنطق "آذنَّاك" (سورة فصلت: 47) "إزاك" ثم تفسيرها ككلمة سريانية، والكلمة تكررت في: " فإن تولوا فقل ءاذنتكم علىٰ سواء وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون" (سورة الأنبياء: 109) ومعناها واضح في العربية بغض النظر عن أصلها: أبلغناك، أبلغتكم، على التوالي.
وتغيير كلمة "عتل" إلى "عال" (سورة القلم: 13) والكلمة جاء مشتق منها في: "خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم" (الدخان: 47).
والتعسف في تفسير: "فنادٰها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا * وهزي إليك بجذع النخلة تسـٰقط عليك رطبا جَنيِّا" (سورة مريم: 24 -25) فحسب تفسيره يجب أن تُكتب: فناداها من نُحاتِها ألا تحزني قد جعل ربك نُحاتكِ شـريا، بمعنى:
فناداها حال وضعها ألا تحزني قد جعل ربك وضعَكِ حلالا (ص ص 127-129)، بينما التفسير الإسلامي المعتاد بتنوعاته هو أكثر اتساقا مع آية 25 بمعنى أن الكلام عن توفر الماء والطعام وليس عن الحلال والحرام، دون عدم الأخذ في الاعتبار أن كلمة "سريا" قد تكون سريانية، أو نبطية.
وقد لجأ لوكسنبرج إلى التلفيق أكثر من مرة في كتابه للبرهنة على سريانية بعص نصوص القرآن[572].
- في الحقيقة يجب أن ننتبه إلى أن اللغتين العربية والآرامية من مجموعة واحدة، فليس من الغريب أن نجد كلمات مشتركة دون أن يعنى ذلك أنها كلمات دخيلة، ومن الطبيعي رغم ظهور بنية لغوية عربية خاصة أن يكون هناك تأثير متبادل بين مجموعة اللغات السامية.
وإذا طبقنا منهج لوكسنبرج على أي نص عربي سنصل إلى نتائج لا علاقة لها بالمعاني المقصودة بل وقد نعتبر في النهاية أننا لا نكتب ولا نقرأ العربية أصلا!!.
عادل العمري
ذهب بعض القدامى إلى أن بالقرآن كلمات غير عربية، منهم السيوطي والجويني وابن النقيب وفقا للسيوطي[513] والراغب الأصفهاني[514]؛ منها: "الطور" (جبل بالسريانية)، و"طفقا" (قصدا بالرومية - يقصد اليونانية)، و"القسط"، و"القسطاس" (العدل بالرومية) "إنا هدنا إليك" (تبنا بالعبرية)، و"السجل" (الكتاب بالفارسية)،
و"الرقيم" (اللوح بالرومية)، و"المهل" (عكر الزيت بلسان أهل المغرب)، و"السندس" (الرقيق من الستر بالهندية)، و"الإستبرق" (الغليظ بالفارسية بحذف القاف)، و"السرى" (النهر الصغير باليونانية)، و"طه" (أيْ طأ يا رجل بالعبرية)، و"يصهر" (أي ينضج بلسان أهل المغرب)، و"سينين" (الحسن بالنبطية)، و"المشكاة" (الكوة بالحبشية)،
و"الدري" (المضيء بالحبشية)، و"الأليم" (المؤلم بالعبرية)، و"ناظرين" (إناه أي نضجه بلسان أهل المغرب)، و"الملة الآخرة" (أي الأولى بالقبطية)، و"وراءهم ملك" (أي أمامهم بالقبطية)، و"اليم" (البحر بالقبطية)، و"بطائنها" (ظواهرها بالقبطية)،
و"الأب" (الحشيش بلغة أهل المغرب)، و"إن ناشئة الَّيل"، قال ابن عباس، و"نشأ" بلغة الحبشة = قام من الليل، و"كفلين من رحمته" (ضعفين بلغة الحبشة)، و"القسورة" (الأسد بلغة الحبشة)، وقال الزمخشري أن التوراة والإنجيل أعجميان ورجّح ذلك بقراءة "الأنجيل" بالفتح[515].
وذُكر منها أيضا: سجيل، أباريق، زنجبيل، طاغوت، عدن، فرعون، فردوس، ماعون، التنور، أسباط، أسفار، إصري، أليم، أكواب، إلا، إناه، آن، آنية، أواب، سلسبيل، مرجان، مرج (أصلها فارسي حسب الجواليقي)، سجين، عليين، أبابيل، قسورة، حنانا، الرقيم،
غسلين، سريا، فرقان، رحمن، آمين، بيعة، قبس (أصلها مصري)، سورة (أصلها سرياني)، أواه (نُسب لابن عباس أنها حبشية معناها موقن، أو مؤمن)، واسماء أعلام كثيرة؛ منها إبراهيم، ونوح، وعزير، وجبريل.. إلخ. بل وكلمة "قرآن" نفسها يحتمل أن تكون من أصل سرياني (قريانا) وسوف نخصها بالبحث بعد قليل.
كما اعتبر بعض المستشرقين كلمة "مثاني" و"المثاني" مشتقة من كلمة "مشنا" العبرية وآخرون اعتبروها مشتقة من "ماثنيتكا" الآرامية.. ويبدو أنها لم تُستخدم في العربية قبل القرآن مثل كلمات أخرى عديدة، ولكن في الغالب لها أصل عربي، وقد جاءت بعض اشتقاقاتها في القرآن:
"ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتـٰب منير * ثاني عِطفه ليضل عن سبيل الله" (سورة الحج: 8-9)، و "ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه" (سورة هود: 5). وقد اختلف المفسرون حول ما هيَ المثاني وعلى معناها وأصلها (الفاتحة، السبع الطوال، لا إله إلا الله محمد رسول الله، حم لأنها جاءت في أول 7 سور، الحروف في أول السور مثل "ألم").
وقد ثار خلاف بين المفسرين واللغوين حول كلمة "إلَّا" الواردة في: "لا يرقبوا فيكم إلَّا ولا ذمة" (سورة التوبة: 8)، "لا يرقبون في مؤمن إلًّا ولا ذمة" (سورة التوبة: 10). والمعروف أن كلمة "إل"، أو "إيل" تعني إله، أو الرب في اللغات السامية، وهو الإله الأعلى؛ كلِّيُّ القدرة في ديانات الساميين القدامى؛ خاصة الكنعانيين، وكذلك الآراميين والهكسوس.
ومنسوبا له أسماء الملائكة مثل جبريل وعزرائيل.. إلخ. وقد استخدمت الكلمة في التوراة كاسم لإله الكنعانيين الذي صار إله العبرانيين وسمَّى نفسه "يهوه"، كما اعتبره العرب رب العالم وأسموه "الله". وفي العربية الباقية لم يتم استخدام "إل" بمعنى الله إلا نادرا؛ من ذلك الحديث المنسوب لأبي بكر الصديق حين سمع سجع مسيلمة: "هذا كلام لم يخرج من "إل"، ولم يصف القرآن الله باسم "إل"، ربما على أساس أن اللفظ تحور إلى "الله".
ومع ذلك اعتبره مجاهد .رية تعني صديق الرب معنى الإله ةمن أسماء الله الحسنى حسب ما قال القرطبي[516]، وهو ما رفضه بقية المفسرين. وأسماء الملائكة المنسوبة "لإل" ممنوعة من الصرف مما يرجح أنها أجنبية الأصل وقد جاءت كلمة "إل" في القرآن (حفص) غير منونة وهذا يرجح دون أن يؤكد أن تكون أجنبية، حيث تم تنوين الممنوع من الصرف في بعض المواضع لمراعاة الوزن أو السجع. لكن يحتمل أيضا أن تكون مشتركة في اللغات السامية.
وقد فسر البعض كلمة "إل" بمعنى القرابة، الحلف، العهد، الجار، الجهر بالصوت... إلخ[517]. وقد استخدمها تميم بن مقبل وحسان بن ثابت في الشعر بمعنى القرابة أو العهد[518]:
قال تميم:
أفسد الناس خلوف خلفوا... قطعوا الإل وأعراق الرحم
وقال حسان بن ثابت:
لعمرك إن إلك من قريش... كإل السقب من رأل النعام
وقال آخر:
وجدناهم كاذبا إلهم ... وذوالإل والعهد لا يكذب[519]
ومعنى العهد ليس بعيدا عن معنى الإله فيقال: فلان لا يراعي الله في تصرفاته؛ والمقصود أحكامه وتعاليمه أو عهده.
وقد ذهب الراغب الصفهاني مذهبا مختلفا، فاعتبر "الإلّ" كل حالة ظاهرة من عهد حلف وقرابة: تئلّ: تلمع، وأَلَّ الفرس، أي: أسرع، والإلَّة: الحربة اللامعة، وأَلَّ بها: ضرب، ورفض اعتبار إلّ وإيل اسم الله، وأذن مُؤَلَّلَة، والأَلَالان: صفحتا السكين[520].
ومثله ذهب الزجَّاج[521] فقال: وحقيقة الإلّ عندي على ما تُوحيه اللغة تحديد الشيءِ فمن ذلك: الإلَّةُ: الحربة، لأنَّها محدَّدَة، وهو ينفي حقيقة مؤكدة ومعروفة جيدا؛ أن إيل وإل تعني الرب في اللغات السامية وقد استخدمت في التوراة بهذا المعنى مرارا.
خلاصة ذلك أن المعنى الذي استخدم به لفظ "إيل" أو "إل" في القرآن وهو القرابة أو العهد قد يكون ضمن معانيٍ عدة للفظ وهو لفظ سامي قد يكون مشتركا بين تلك اللغات أو انتقل من إحداها للعربية.
في الحقيقة وجود كلمات من أصل غير عربي في العربية أمر متوقع تماما بحكم اختلاط البشر وتأثرهم ببعض كما أسهب الخفاجي[522] والجواليقي[523] وقد استعرض الجواليقي نحو 730 كلمة استعارتها لغة العرب وعربت بالفعل بخلاف الكلمات الدخيلة التي لم تعرب جاء بعض منها في القرآن.
وقد رد بعض ما أورده الجواليقي إلى العربية الدكتور عبد الجليل عبد الرحيم كما استعرض بشيء من التفصيل كثير من الكلمات الدخيلة من مختلف اللغات[524].
ومن الأمثلة في شعر المعلقات[525]:
مهفهفة بيضاء غير مفاضة ... ترائبها مصقولة كالسجنجل (امرؤ القيس)
وتضيء في وجه الظلام منيرة... كجمانة البحري سلَّ نظامها (لبيد بن ربيعة)
حَذَرَ الجَورِ والتعدي وهل ينـ ... قض ما في المهارق الأهواء (الحارث بن حِلِّزة)
وهناك فريق رأى أن بالقرآن كلمات غير عربية، ومن أسانيد هذا الفريق ما رُويَ عن ابن عباس ومجاهد وابن عكرمة وعطاء وغيرهم من الثقاة أنهم قالوا بذلك، وما اتفق عليه النحاة على منع صرف كثير من الأسماء الموجودة في القرآن لأنها أعجمية.
أما أغلب القدامي؛ منهم ابن جرير وأبو عبيدة والقاضي أبو بكر والشافعي وابن فارس، فقد رفضوا الفكرة تماما[526] باعتبار القرآن نزل بلسان عربي مبين وما به من كلمات تبدو غير عربية هيَ مما توارد من كلمات في سائر اللغات.
كما ذهب معظم اللغويين العرب نفس المذهب، وهذا ما يفسر لجوءهم في تعليل وصرف الكلمات في حدود افتراض أصلها العربي الخالص دونما اعتبار لاحتمال منشئها غير العربي.
وهناك من ذهب إلى حل وسط؛ فالعربية قد امتصت كلمات غير عربية وأدمجتها في منظومتها فصارت عربية كما يحدث في كافة اللغات الحية. وهذا رأي القاضي عبد الجبار كما أشار لويس عوض[527]، وأبو عبيد القاسم بن سلام وفقا لابن فارس[528]، الذي قال:
والصواب عندي مذهب فيه القولان جميعاً وذلك لأن هذه الأحرف أصولها أعجمية كما قال الفقهاء، ولكنها وقعت للعرب فعربتها بألسنتها وحولتها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها، فصارت عربية، ثم نزل القرآن، وقد اختلطت هذه الحروف بكلام العرب، فمن قال إنها عربية، فهو صادق، ومن قال إنها أعجمية فصادق.
وتم تعريب الكلمات باستبدال حروف والحركات وتبديل الأساليب الصوتية ليصبح اللفظ متسقا مع بنية اللغة.
وقد انقسم المحدثون بنفس الطريقة؛ من الاتجاه الأول رمضان عبد التواب ومن الثاني أحمد شاكر ومن الثالث طاهر حمودة.
لكن العلوم اللغوية الحديثة أتاحت إمكانة أكبر لتحليل أصول الكلمات ومنبتها وإذا ما كانت قد انتقلت من هذه اللغة إلى تلك، أو العكس بناء على تحليل العائلات اللغوية ومعرفة بنيتها ومختلف فصائلها وحركاتها التاريخية،
بخلاف القدامي الذين اعتمدوا على الظن والترجيح وثرواتهم اللغوية الشخصية، ومما يضعف افتراضاتهم أن العربية لم تكن لغة موحدة منذ نشأتها ومازالت هناك كثير من الألسنة[529].
وهناك عديد من محاولات المحدثين البرهنة على أن عربية القرآن صافية باستخدام العلوم الحديثة وكأن وجود كلمات أعجمية بالقرآن يقلل من عروبته التي نص عليها.
أما أن القرآن بلسان عربي مبين وعدم وجود ما يدل على اعتراض الكفار على ذلك فيعني لنا أنه قد تم بالفعل تعريب كلمات غير عربية (الرأي الثالث) كما بقيت غيرها غير معربة منها أسماء بعض الأعلام؛ مثل: نوح، إبراهيم، لوط، إسرائيل، جبريل، وغيرها مثل آمين، بيعة... إلخ، وأنها استخدمت بدون تحفظ. أما تحديد ما هيَ هذه الكلمات في القرآن فما زال موضع خلاف بين علماء اللغة.
ومن المرجح أيضا أن خلطا قد تم بين بين اعتبار بعض الكلمات من أصل أجنبي، أو من بين ألسنة العرب، أو من أصل عربي جرى عليه التطور التاريخي، وهناك كلمات مشتركة بين اللغات السامية ربما اعتبرها البعض غير عربية مثل: جهنم، حور، خاتم، سفر، شهر، يم[530].. إلخ.
وهناك من الكلمات الدخيلة التي اعتبرها علماء العربية والمفسرون من كلام العرب وترتب على هذا تغيير كبير في المعنى والاستخدام. من ذلك كلمة "جو" في الآية: "ألم يروا إلى الطير مسخرٰت في جو السماء ما يمسكهن" (سورة النحل: 79)؛ فقد اعتبروا معناها: الهواء المحيط بينما هيَ – كما أشار كريستوف لوكسنبرج[531] -
كلمة سريانية معناها الدخيلة، أو الباطن، ويمكن استخدامها أيضا كحرف جر بمعنى داخل وهو ما يُستخدم في العامية: جوا البيت وهو المعني الأكثر اتساقا مع الآية: فالطيور داخل السماء وليس خارجها. ولكن قراءة الكلمة القرآنية بمعنى هواء هو الذي ساد وأصبح جزءا من العربية (يقال كما أشار لكسنبورج: البريد الجوي، القوى الجوية... إلخ).
ونخص بالاهتمام هنا كلمة القرآن التي أثارت كثيرا من الجدل:
جاءت الكلمة في الكتاب المقدس 70 مرة كإشارة لما جاء به النبيّ كوحيِّ.
وفي هذه الآية ميز بين الكتاب والقرآن بوضوح: "تلك ءايـٰت الكتـٰب وقرءان مُّبين" (الحجر: 1).
المفهوم من الآية أن القرآن صفة للكتاب المقدس، أو اسم خاص له مثل التوراة والإنجيل.
وقد تقبل الباحثون الغربيون عموما اقتراح ف. شوفالي باعتبار الكلمة من أصل سيرياني؛ كلمة قريانا Keryana التي تعني الكتاب المقدس[532]، أو قراءة الكتاب المقدس.
وفي رأي أغلب علماء الإسلام أصل الكلمة هيَ قراءة وقد قُرأت الكلمة بالهمزة بينما قرأها البعص بدون الهمزة منهم أبو قتادة وأبو عبيدة[533].
وممن قرأوها كذلك بدون همزة: الشافعي؛ فاعتبر الكلمة غير مشتقة وهي أرسلت من الله لرسوله لتعني الرسالة المقدسة[534]، فليست إذن منقولة من لغة أخرى ولا مشتقة من كلام العرب، فلو كانت مشتقة من "القراءة" لسُمي كل كتاب مقروء قرآنا.
وهو رأي شديد الوجاهة، ولكن ما المانع أن يُسمى كل كتاب مقروء قرآنا كما نسمي أي كتاب كتاب؟ لكن اعتاد الناس أن يقولوا القرآن وصفا لقرآن المسلمين واعتادت جماعات من الناس قول الكتاب بألف لام التعريف وصفا لكتاب معروف لديهم.
وقيل إن الشافعي كان يقرأ "قرأت" بالهمز ولا يهمز "القران"، مما اعتُبر أن "القران" اسم علم وغير مشتق[535]. ولكن بما أن الكلمة موجودة أصلا في لغة أقدم من العربية فما يمنع أنها قد نقلت منها مباشرة؟ خصوصا أنها لم تكن مستخدمة في كلام العرب قبل أن استخدمها النبي محمد.
وحسب الزركشي قال القرطبي إن "القران" بغير همز مشتق من "القرائن" لأن الآيات منه يصدق بعضها بعضا ويشابه بعضها بعضا فهيَ حينئذ قرائن[536]. ولكن هذا يعني إطلاق اسم "قران" على أي كتاب مشابه.
وأبو الحسن الأشعري بالذات اعتبر الكلمة مشتقة من "قرن" بمعنى ضم الشيء وجمع بعضه إلى بعض[537]. وكذلك ذهب أبو عبيدة[538].
أما أغلب علماء الإسلام فقرأوا الكلمة بالهمزة؛ فاعتبرها الزجَّاج مشتقة من القراءة بمعنى الجمع، مثل جمع الماء في الحوض، واعتبرها أبو الحسن اللحياني مشتقة من قراءة بمعنى تلاوة، على وزن غفران.
ويُلاحظ أن كلمة "قرأ" في العربية لا تعني دائما قراءة كلمات مكتوبة فيقال في العربية: قرأ عليه السلام: أبلغه السلام، وهي أيضا تفيد التلاوة، أو الأداء؛ مثل: قرأ علامات الغضب على وجهه: أيْ لاحظها، قرأ القرآن عن ظَهْر قلب: حفظًا دون كتاب، قرأ الغيب: تكهن به، قرأ ما بين السطور: فهم الأمر المضمر،أو استشف المعنى الضمني، قرأ على فلان النحو: درسه على يديه، قرأ للمستقبل حسابه: احتاط له، قرأ ما في ذهنه: استشف ما يفكر فيه.
وتتضمن كل المعاني السابقة الكشف والتبيان، وفي آيات عدة جاءت "قرآن" بمعني ظاهر هو التلاوة التي هيَ بطبيعتها عملية معلنة. وقد جاءت كلمة قراءة حسب بعض علماء اللغة من الآرامية[539].
وقد رد ابن قيم الجوزية بإسهاب على من قال بأنها تعني الضم، أو الجمع: قال ما معناه: القَرء ليس مشتقا من الجمع، فالمشتق من الجمع هو من الفعل المعتل: قرى يقرى، أما القرء فهو مهموز من قرأ يقرأ، وهما أصلان مختلفان؛ فيقولون: قريت الماء في الحوض أقريه، أيْ: جمعته، ومنه سميت القرية.
وأما المهموز "قرأ"، فيعني الظهور والخروج على وجه التوقيت والتحديد، ومنه قراءة القرآن، لأن قارئه يظهره ويخرجه مقداراً محدوداً ويدل عليه قوله: "إن علينا جمعه وقرءانه" (القيامة: 17)؛ ففرق بين الجمع والقرآن. وعلى ذلك يُقال: فلان يقرؤك السلام، ويقرأ عليك السلام، هو من الظهور والبيان[540].
وقد ذكر القرآن نفسه كلمة قرآن في أحد المواضع بمعنى تلاوة: "لا تحرك به لسانك لتعجل به * إن علينا جمعه وقرءانه * فإذا قرأْناه فاتبع قرءانه * ثم إن علينا بيانه" (سورة القيامة: 17-19)، والظاهر من المعنى هنا أن قرآنه الأولى تعني تلاوته (يقصد على لسان جبريل)، وما يؤكد ذلك بقية الآية: فاتَّبِع قُرْآنه أي اتبع تلاوته.
و"قرآنه" في الآيتين جاءت بمعنيين يختلفان عن كلمة "القرآن" ويمكن استخدامها فيما يخص غير القرآن حسب ظننا رغم أن كلمة "قرآن" تخص الكتاب المقدس وحده كاسم له كما قال الشافعي سواء قُرأت بالهمزة، أو بدونها. وقد شرح الآية الفرَّاء هكذا: إذا قرأه عليك جبريل عليه السلام فاتبع قرآنه، والقراءة والقرآن مصدران، كما تقول: راجح بين الرجحان والرجوح. والمعرفة والعرفان، والطواف والطَوفان[541]. وهو شرح له وجاهته.
ومما يرجح عربية كلمة "قرآن" شيوع استخدام صيغة فُعْلان في العربية[542]، وهو من المصادر السماعية؛ أي لا تخضع لقياس صرفي عام[543]؛ مثل: فرقان، قربان، سلطان، سودان، عدوان، طوفان، برقان، ورلان، شُبَّان، بركان، سُبحان... وقد أسهب سيبويه في تناولها.. وقد ذُكر كثير منها في القرآن وهي تكون اسما، أو صفة.
خلاصة: كلمة قرآن كلمة عربية سواء بالأصل، أو بالتعريب استخدمت لأول مرة في القرآن؛ قد تكون مشتقة من "قراءة" وتم نحتها لتعبر عن أكثر من معنى حسب موقعها في الكلام: كتسمية للكتاب المقدس وكصفة له، أو بمعنى التلاوة. أو تمت استعارتها من الآرامية وتعريبها بتحويلها من قريانا إلى قرآن واشتقاق كلمات أخرى تشبهها. أما "يقرأ" فهي آرامية الأصل في الغالب بمعنى "يتلو". وهناك احتمال أن تكون مشتركة بين العربية والآرامية.
**********************************
26- فواتح السور:
وهي 15 كلمة مذكورة في أوائل السور وهي 14 حرفا جاءت في أوائل 29 سورة وقد تكرربعضها خصوصا "حم".
ومنذ القدم احتار الإسلاميون والمستشرقون في تفسير هذه الفواتح ومعناها وقيل فيها الكثير والكثير.
ونحن نهتم هنا بالقيمة اللغوية لهذه الفواتح.
الاجتهادات اللغوية بهذا الخصوص محدودة؛ منها ما ذكره نولدكه من أن هذه الفواتح قد تمثل أسماء من جمعوا السور ثم اعتبر هذا الاحتمال غير أكيد بسبب صعوبة تفسير ذلك لكلمات طويلة مثل كهيعص، و حمعسق[544].
وقد اعتبرها البعض سرا، أو بأنها أسماء سرية للنبي لا يجوز السؤال عنها، كما فسر بعضها على أنه كلمات لها معنى ومنها كلمة "طه" التي تعني "طأ يا رجل"
بالعبرية[545]، وهي تُستخدم كاسم علم وتُعامل على أنها ضمن أسماء الرسول، وكلمة "يس" قد تكون تحويرا لكلمة سنSin التي تعني إله القمر وهو أحد آلهة شمال جزيرة العرب[546]، كما أن القمر يتمتع بالاحترام في الإسلام في صورة الهلال ويعد أحد رموز الديانة، أو تحويرا ل "سين" Syn وهو إله جنوبي وهو إله الشمس[547]، أو اختصارا لاسم "ياسين"، خاصة أن البعض قرأها "ياسين والقرءان"[548]، وياسين في القرآن هو النبي إلياس.
واعتبر السيوطي أن طس وحم هيَ أسماء أعجمية[549]، وقد قرأ البعض "طاسين"[550]. وذكر آرثر جيفري نقلا عن [551]Schwally أن "ن" في أول سورة ن تعني السمكة في لغات الشمال السامية مشيرا أيضا إلى تفسير البيضاوي[552]، وقد فسرها القرطبي نفس التفسير: والحوت هو النون الذي ذكر الله تبارك وتعالى في القرآن بقوله: "نْ والْقَلَمِ"، كذلك ذهب ابن كثير في تفسيره.
وقيل أن ابن عباس قد اعتبر تلك الفواتح أقسام أقسم بها الله، وهي من أسمائه، وأن ابن مسعود اعتبر "الم" اسم الله الأعظم[553]. وهذا رأيٌ لم تـأخذ به الغالبية العظمي من أهل التفسير.
ولجأ البعض إلى مسألة الإعجاز العددي لتعليل وجود هذه الفواتح، كما اعتُبرت المقصودة بالسبع مثاني المشار إليها في القرآن.
كما اعتبرت اختصارا لعبارات مثل: أ ل م = أنا الله أعلم، ا ل ر: أنا الله أرى... إلخ[554]، أو اعتبار كلمات مثل: الر، حم، ن، تساوي كلمة الرحمن[555]، بدون أي تدليل على هذا. ونُسب لابن عباس القول بأن كهيعص في بداية سورة مريم تشير إلى خمس من صفات الله؛ الكريم، والهادي، والحكيم، والعليم، والصادق. وكذلك ترمز "المص" إلى أنا الله الرحمن الصمد[556].
لسنا في معرض تفسير معاني هذه الفواتح ولكن الواضح أنها من الناحية اللغوية ليس لها معنى محدد، أو مفهوم بشكل مؤكد ويمكن اعتبارها شيء يشير إلى وجود أسرار ما في القرآن؛ خاصة أنه ليس مجرد كتاب في التعاليم الدينية بل يمتلئ بالحكم والمواعظ والعبر وهو بهذه الفواتح يحاول الإيحاء بوجود علاقة سرية بين النبيّ والله ولغة خاصة بينهما وبالتالي فهو يتلقي وحيا وأسرارا، وهو دور ربما قامت به أيضا الكلمات الأجنبية والغريبة و"الشاذة" كما نعتوها.
**********************************
27- كسر حرف المضارع (التلتلة) والأسماء:
وجد كسر الفعل المضارع في العبرية والسريانية والحبشية حسب أبحاث المختصين[557].
وقد نطقت بعض قبائل العرب بهذه الطريقة وقرأت القرآن بها. حسب أبي زكريا الفرَّاء[558] كل من قيس وتميم وربيعة ومن جاورهم، يكسرون أوائل الحروف، فيقولون للبعير: بِعير وللئيم لِئيم، وللبَخيل بِخيل..
وقد قرأت القراء في نِستعين وفي غيرها بالكسر؛ من ذلك: أنهم قرءوا: ولا تِركنوا، و ما تِشاءون، تِخافون، و مالك لا تِيمنا على يوسف، و ألم إِعهد إليكم، و قبل أن إِيذن لكم، يوم تِبيض وجوه وتِسود وجوه.
من خلال استقراء الشواهد الواردة في لهجات القبائل العربية وجدُ أنَّ الكسر يشمل جميعَ أحرفِ المضارع (أ،ن،ي،ت) ولم يقتصر على حرفٍ دون آخر[559].
وممن يكسرون المضارع أسد وكلب وقيس وعامر[560]، وقبيلة بهراء[561].
وحسب سيبويه كان كسر أول الفعل سائدا عند العرب ماعدا أهل الحجاز وهو الأصل [562].
وردت بعضُ قراءاتِ القرآن موافقةً مع كسر حرفِ المضارع وأشهرُ تلك القراءات ما ورد في: إِيَّاكَ نَــــــعْبُدُ وإِيَّاكَ نَــــــسْتَعِينُ (الفاتحة: 5)؛ حيث قُرأت بكسر النون:
نـِعبد[563]. ونـِـسْتَعِينُ كذلك وهي حسب قوله لغة قيس وتميم وأسد وربيعة[564]، ولا تِركنوا إلى الذين ظلموا فتِمسكم النار (هود: 113). جاءت في بعض القراءات الشاذة[565]. وتكرركسر تاء المضارعة في بعض القراءات: "يَومَ تِـــبْيَضُّ وجُوهٌ وتِــــسْودُّ وجُوهٌ" (آل عمران: 106).
أما حرفُ المضارع بالهمزة فقد جاء مكسوراً في: "فكيف ءاسَىٰ على قومٍ كـٰفرِين" (الأعراف: 93)، حيث قُرىء الفعلُ المضارع "إيـِسي".. وفي العامية المعاصرة نجد التلتلة واسعة الاستخدام: ومن ذلك يـِسمع، يِضرب، يِسرق.. إلخ على سبيل تخفيف النطق. وحتى في الفصحى نجد آثارا للتلتلة:
قال العباس بن مرداس:
قد كان قومك يحسبونك سيدا... وإِخالُ أنك سيد معيون[566]
ولا توجد هذه الظاهرة في رواية حفص؛ متبعةً لغة قريش.
****************************
28- القراءة السيريانية للقرآن - جهود كريستوف لوكسنبرج[567]:
بذل هذا الباحث الألماني جهدا لإعادة قراءة القرآن على ضوء تأثر لغته باللغة السائدة شمال الجزيرة العربية وفي الهلال الخصيب وقت كتابته؛ السريانية وهيَ لهجة آرامية، وبدون الالتزام بسيبويه ولا بالتفسيرات العربية وغير العربية، محاولا البرهنة على أنه كتب بلغة هجينة من العربية والآرامية. والفكرة الأساسية له هيَ أنَّ كثيرا من الآيات الغامضة والمبهمة في القرآن يمكن فهمها بشكل أفضل إذا تمت قراءة بعض الكلمات قراءة سريانية.
وقد سار الباحث بالابتداء بتفسير الطبري ثم الرجوع إلى لسان العرب لابن منظور، ثم تغيير نقاط الحروف في حدود القراءة العربية ثم تغيير نقاط الحروف بهدف إيجاد مصدر لقراءة سريانية ثم في ترجمة التعبير العربي إلى السريانية لاقتباس مفهوم هذا التعبير من معانى مرادفه السرياني.
ورغم المبالغات – حسب ظننا – قدم تعليلات معقوله للغاية بمنهجه الفريد لعبارات قرآنية شديدة الغموض لم ينجح أحد في تفسيرها بطريقة تتسق مع منهج ومعاني الكتاب. من أمثلة ذلك:
الآية 64 من سورة الإسراء[568]: "واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك وشاركهم في الأموال والأولـٰد وعدهم وما يعدهم الشيطـٰن إلا غرورا". وموضوع الآية أن الله بعد أن طرد إبليس من الجنة فاستأذن منه الأخير أن يسمح له أن يجرب الناس إلى يوم الدين، فأذن له. وحسب الطبري "استفزز" بمعنى أفزع بصوتك، مع أن الإفزاع بالصوت يناقض المفهوم القرآني القائل بأن إبليس يوسوس في صدور الناس.
وأشار لوكسنبرج إلى أن لسان العرب يشرح استفزه بمعنى ختله حتى ألقاه في مهلكة، وهو تعريف لم يكن مستخدما في الفترة التالية مباشرة للقرآن مما يعني أنه مصطنع، ولذلك قرأها: "استفرر" بمعنى ابعدهم، أو اشغلهم عني. أما "وأجلب عليهم بخيلك ورجلك" فشرحها الطبري بمعنى الهجوم على الناس بجلبة لتخويفهم بالخيالة والمشاة، بما يخالف أيضا المعنى القرآني للوسوسة.
وعلى هذا قرأها لوكسنبرج أخلِب عليهم بحيلك ودجلك؛ بمعنى الاحتيال، مما يتوافق والمنطق القرآني. أما وشاركهم بالأموال والأولاد فقد أثارت استغراب المفسرين؛
ففسرها الطبري بمعنى مشـاركة إبليس الناس بمال الحرام وأولاد الزنى، بينما فسرها لوكسنبرغ بالأخذ في الاعتبار أن الشَرك والأشراك بالعربية مشتق من سـرك بالسريانية وهي بمعنى أغرى؛ مستشهدا لذلك بالحديث النبوي: أعوذ بك من شرّ الشيطان وشَرَكِه.
فيكون قصد القرآن أن إبليس يغري الناس بوعده الكاذب وخداعه لهم بالمال والبنين وليس بمشاركته إياهم بهم، مما يتسق مع آخر جزء من الآية: "وعدهم وما يعدهم الشـيطن إلا غرورا".
ومن الأمثلة الأخرى حل إشكالية كلمة "قسورة" في سورة المدثر: "فما لهم عن التَّذكرة معرِضين" * كأَنهم حُمُر مُستنفرة * فرَّت من قسورة". إذ ذهب المفسرون إلى أنها كلمة حبشية تعني الأسد، ثم جاء المفسرون الغربيون فبحثوا في أصل هذا التعبير ولم يجدوا له اشتقاقا من الحبشية،
وقد توصل لوكسنبرج إلى أن الكلمة سريانية يفيد معنى الحمار العجوز الضعيف واستعان بلسـان العرب، الذي أشار إلى أن أهل البصرة يقولون للمرذول ابن قَوْصَرة qausara والأصح قُوْصْرَة qusra بمعنى القاصر، أو الفاشل ومع تغيير الرسم القرآني من قسورة إلى qasora يصبح معنى الآية فرار الحمير من دابة هرمة لا يجب أن يُهرب منها وهو ما يتسق أكثر مع روح الآية[569].
ومن السور التي صعب تفسيرها تفسيرا مقنعا سورة الكوثر: "إنا أعطيناك الكوثر* فصلِّ لربِّكَ وانحر * إن شانئك هو الأبتر". توصل لوكسنبرج إلى هذا التفسير: إِنّا أعطيناك مَزِيَّةَ الإصْرَار*فصلِّ لربِّك وثابر (في الصلاة)*إنَّ شَانِئُكَ (الشيطان) هُو الأبترْ (المهزوم)، بعد إعادة قراءة السورة كالآتي: إنا أعطينك الكوثر، فصل لربك وانجر، إن سانيك هو الأبتر[570]، وهو تفسير أكثر إقناعا من التفسير الإسلامي الشائع لكنه غير قائم على تحليل لغوي سليم بل مجرد ادعاء[571].
وقد أشرنا من قبل إلى تفسيره ل: "ألم يروا إلى الطير مسخرٰت في جو السماء ما يمسكهن" (سورة النحل: 79).
وبنفس المنهج راح لوكسنبرج يحلل كلمات كثيرة من غريب القرآن مثل: حور – يلحدون – الحوايا – رقيم – زنيم – حنيف – سريا- ناديه - ناصية.. إلخ.
وقد ذهب لوكسنبرج بعيدا أكثر مما ينبغي في قراءة القرآن قراءة آرامية؛ منها: التعسف في قراءة: سندع الزبانية وتغييرها إلى: He will (only) call upon a transitory God بمعنى سيدعو إلها زائلا، أو غير أصيل (ص319).
وكذلك تفسيره الغريب (ص ص 192-195) للآية 259 من سورة البقرة:
" أو كالذى مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنىٰ يحي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما"..
وهي واضحة بما فيه الكفاية وبلغة العرب ولا يوجد غموض يبرر اللجوء إلى قراءتها بالسريانية. هناك أيضا إصراره على قراءة كلمة "،ََهُمْ عَنِرِضِينَ (49) كَأَنَّلغة قريش.ت أو انتقل من إحداها للعربية.دامه لدى العرب، ربما لأنه تحول إلى "الله".
ءاذنَّٰك" وتنطق "آذنَّاك" (سورة فصلت: 47) "إزاك" ثم تفسيرها ككلمة سريانية، والكلمة تكررت في: " فإن تولوا فقل ءاذنتكم علىٰ سواء وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون" (سورة الأنبياء: 109) ومعناها واضح في العربية بغض النظر عن أصلها: أبلغناك، أبلغتكم، على التوالي.
وتغيير كلمة "عتل" إلى "عال" (سورة القلم: 13) والكلمة جاء مشتق منها في: "خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم" (الدخان: 47).
والتعسف في تفسير: "فنادٰها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا * وهزي إليك بجذع النخلة تسـٰقط عليك رطبا جَنيِّا" (سورة مريم: 24 -25) فحسب تفسيره يجب أن تُكتب: فناداها من نُحاتِها ألا تحزني قد جعل ربك نُحاتكِ شـريا، بمعنى:
فناداها حال وضعها ألا تحزني قد جعل ربك وضعَكِ حلالا (ص ص 127-129)، بينما التفسير الإسلامي المعتاد بتنوعاته هو أكثر اتساقا مع آية 25 بمعنى أن الكلام عن توفر الماء والطعام وليس عن الحلال والحرام، دون عدم الأخذ في الاعتبار أن كلمة "سريا" قد تكون سريانية، أو نبطية.
وقد لجأ لوكسنبرج إلى التلفيق أكثر من مرة في كتابه للبرهنة على سريانية بعص نصوص القرآن[572].
- في الحقيقة يجب أن ننتبه إلى أن اللغتين العربية والآرامية من مجموعة واحدة، فليس من الغريب أن نجد كلمات مشتركة دون أن يعنى ذلك أنها كلمات دخيلة، ومن الطبيعي رغم ظهور بنية لغوية عربية خاصة أن يكون هناك تأثير متبادل بين مجموعة اللغات السامية.
وإذا طبقنا منهج لوكسنبرج على أي نص عربي سنصل إلى نتائج لا علاقة لها بالمعاني المقصودة بل وقد نعتبر في النهاية أننا لا نكتب ولا نقرأ العربية أصلا!!.
عادل العمري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يرجى التكرم بالالتزام بقواعد حرية الراي وحقوق النشر