الآثار المترتبة على التعصُّب المذهبي:
التعصب إلى أيِّ مذهب يترتَّب عليه آثارٌ سلبيَّة، منها:
أولاً: افتراق وَحْدة المسلمين، وهذا يظهر جليًّا فيما حكاه بعضُهم بأن رجلاً رأى آخَر وهو يرفع سبَّابته عند التشهُّد، فضربها حتى كسرها؛ لأنَّه يرى أن رفع السَّبَّابة مُحرَّم! و{إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة من الآية:156]، لا سِيَّما وأن رفع السبَّابة أمرٌ مشروع.
ثانيًا: التَّنافُس بين تلاميذ المذاهب، والذي دفعَهم إلى الوقيعة، والتباغض، والتَّقاتُل، والتاريخ شاهدٌ بذلك، بل وتَرْك الصَّلاة وراء بعضهم البعض.
ثالثًا: نشوء ضعف الوازع الدِّيني؛ وذلك بأنَّ المكلَّف إذا وعظ بالآية وعلم أنَّ هذا كلام الله، أو ذَكَّر بالحديث وعلم أنَّ هذا كلام رسول الله كان لهذا شأنٌ عنده، بعكس ما لو قيل له: هذا رأي الإمام فلان، أو الإمام فلان، وبذلك نشَأ عند كثيرٍ من المسلمين ضَعْفُ الوازع الدِّيني، والذي نُشاهده في التحايل على الأمور الشرعيَّة.
رابعًا: نشأة التَّلفيق، وهو الاتِّجاه إلى جمع الرُّخَص والتسهيلات الموجودة في المذاهب، وبذلك ينشأ التَّهاون، وارتكابُ كثيرٍ من المُخالَفات، وذلك بتتبُّع الأقوال التي تُناسب هوى كلِّ إنسان من كل مذهب، ولو كان الاحتكامُ إلى الدليل من الكتاب والسُّنة لَمَا وُجِد هذا.
خامسًا: تعظيم الأئمَّة إلى الحدِّ الذي يرفعهم إلى نِسْبة العصمة لهم، وعدم جواز الخطأ عليهم، ولذلك نرى كثيرًا من العلماء لا يجرؤ أن يقول: "أخطأ الإمامُ في هذه المسألة"، مع العلم أنَّه يرى النصَّ بخلاف الفتوى، وهذا التعظيم قد يصل ببعض الناس إلى ردِّ الآية المُحْكَمة القاطعة الدلالة، والحديث الصحيح الواضح المعنى؛ خوفًا من مُخالفة الإمام، وهذا إن لم يكن شِرْكًا بالله فهو ذريعةٌ إلى الشِّرك، وتقديمُ غير أمر الله على أمر الله".
خلاصة القول: اعلم أنَّ بين الأئمة اختلافًا كبيرًا في الفروع وبعضِ الأصول، وللقليل منهم غلطات وزلقات ومُفْردات منكَرة، وإنما أُمِرنا باتِّباع أكثرهم صوابًا، ونجزم بأنَّ غرضهم ليس إلا اتِّباع الكتاب والسُّنة، وكلَّما خالفوا فيه لقياسٍ أو تأويل قال: وإذا رأيت فقيهًا خالف حديثًا أو ردَّ حديثًا، أو حرَّفَ معناه فلا تُبادر لتغليطه، فقد قال عليٌّ رضي الله عنه لمن قال له: "أتظنُّ أنَّ طلحة والزبير كانا على باطل: يا هذا، إنَّه ملبوس عليك، إن الحقَّ لا يُعرَف بالرِّجال، اعرِف الحقَّ تَعْرِفْ أهله" (الجامع لأحكام القرآن لـ القرطبي، [1/340]).
وما زال الاختلافُ بين الأئمة واقعًا في الفروع وبعض الأصول، مع اتِّفاق الكل على تعظيم الباري جلَّ جلاله وأنه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، وأنَّ ما شرَعه رسولُه حق، وأنَّ كتابهم واحد، ونبيَّهم واحد، وقِبْلتهم واحدة، وإنَّما وُضِعت المُناظرة لكشف الحقِّ، وإفادة العالِم الأزكى العلمَ لمن دونه، وتنبيه الأغفل الأضعف، فإنْ داخَلَها زَهْوٌ من الأكمل، وانكسارٌ من الأصغر، فذاك دأب النفوس الزكيَّة في بعض الأحيان؛ غفلةً عن الله، فما الظنُّ بالنفوس الشريرة المنطَفِيَة؟!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يرجى التكرم بالالتزام بقواعد حرية الراي وحقوق النشر