تجديد الثقافة العربية بوجوه ماضوية

. . ليست هناك تعليقات:




بقلم : محمد ابو الفضل

بعض شيوخ الثقافة يشبهون شيوخ الحارة كل يريد احتكار المجال الذي برع فيه منذ سنوات بصرف النظر عن قيمة إنجازاته وتعدد إخفاقاته ويمنع ظهور الأصوات المخالفة التي يمكن أن تقارعه الحجة بالحجة.



الوجوه الماضوية من عوامل الخلل في تطوير الثقافة العربية


إحدى أهم المشكلات التي تتعرض لها الساحة العربية أن من يشخصون أمراضها السياسية والثقافية ويضعون الأدوات للعلاج، ينحدرون من ماض سحيق. أخذوا كل الفرص واختبروا عمليا ولم يتمكنوا من إحراز تقدم ملموس، مع ذلك يصر بعضهم على الاستمرار في الواجهة، ويقوم المسؤولون على مشروعات التطوير باستدعائهم على سبيل اليقين أنهم قادرون على التعامل مع الحاضر ووضع رؤى وأفكار للمدى البعيد.
ليكون مضمون المقال أكثر وضوحا، أستعين بلقطات متفرقة من اللقاء الذي حضرته الثلاثاء الماضي، والخاص بدعوة مكتبة الإسكندرية لعقد قمة ثقافية عربية. وهي فكرة براقة نظريا، لكن أمامها مطبات كبيرة، بدءا ممن وضعوا ملامح القمة، وحتى الطريقة المتوقعة لتخرج بها، إذا سلمنا بوجود نية حقيقية للتجاوب مع الرغبة الجامحة التي لاحظتها على وجوه من وضعوا اللبنات الأولى للفكرة وصاغوا بنودها الرئيسة، وهم مجموعة من المثقفين والسياسيين والأكاديميين المصريين.
الاستجابة حتى الآن لم تكن على المستوى المطلوب، لأنها خطوة لا تحتل أولوية كبيرة لدى الكثير من القيادات العربية، والبعض ممن تجاوبوا معها يريدون الاستحواذ عليها، وربما إخضاعها لحسابات سياسية، فتنحرف عن أهدافها الثقافية، ويتم وضعها على الرف، كما جرى وضع الكثير من الأفكار اللامعة، التي لو وجدت اهتماما لتبدل الحال، وانتقلنا إلى مربع آخر يمكن من خلاله التعامل مع المستجدات بروح العصر وليس بالتفتيش في التراث للعثور على روشتة جاهزة، دون بذل جهود للتكيف مع الحاضر وتعقيداته، والاستعداد للمستقبل وتشابكاته.
المشهد العام في لقاء مكتبة الإسكندرية يفسر من غير عناء غموض وربما ارتباك الصورة العامة، فقد تصدرت المؤتمر شخصيات عدة، جلها من المثقفين والمسؤولين السابقين، منهم أربعة وزراء، للشباب والإعلام والثقافة ووزير للشؤون البرلمانية، ومثلهم تقريبا جلسوا على منصة المؤتمر، ويمثلون الماضي في أجلى معالمه القاتمة.
الكلمات التي ألقاها المتحدثون بشأن الثقافة والقمة بدت إنشائية ولم تنفصل عن الماضي والانبهار به والخضوع لطقوسه، مع أنهم جاؤوا للكلام عن النهضة والخروج من المأزق، اجتهدوا كثيرا في الاستشهاد بكتاب الأديب الراحل طه حسين “مستقبل الثقافة في مصر”، وتباروا في تثمينه والاحتفاء به، مع أنه كُتب منذ ثمانين عاما، واعتبروه وصفة سحرية، ويجب اعتماده كنموذج للتطور الحقيقي في المجال الثقافي، ولم يتم الالتفات لفروق العصر ونواميسه.
لم يمنح شيوخ الثقافة في مصر أنفسهم فرصة للإمعان في عنوان كتاب طه حسين وتاريخ صدوره، ليدركوا أن الرجل عندما وضعه كان يريد منهم وغيرهم، المساهمة في تطبيق محتواه وتقديم أفكار للنهضة، فالحاضر الذي نعيشه هو المستقبل لدى طه حسين، ومن ينظر إلى المشهد من هذه الزاوية يعرف أن ثمانين عاما أخرى لن تغير من الثقافة النمطية الراهنة.
اجترار الماضي سمة واضحة في الكثير من المؤتمرات والندوات الثقافية، والخطاب الإعلامي في مصر لم يخرج عن هذا الفلك، وهي حيلة تعتمد على “النوستالجيا” التي يلجأ إليها كثيرون للهروب من الواقع وتجنب انتقاداته، ولا أبالغ إذا قلت إن الخطاب السياسي يتعاطف مع الماضي، ويجتر الفترات الناصعة ويخلد الشخصيات البارزة فيه، باعتبارها نماذج ليس للاسترشاد بها ومحاولة تكرارها، بل لتحاشي المساءلة.
لا أحد يقلل من الجوانب الجيدة في الماضي، بكل ما تنطوي عليه من قيم في السياسة والثقافة، لكن من الصعوبة التقدم خطوة واحدة، إذا كانت كل المعايير بعيدة عن الحاضر، وتتجاهل التحديات المقبلة، وتصب في خندق لم يتمكن من يتمترسون داخله تأكيد جدارتهم.
المثقفون الذين تصدروا منصبة مكتبة الإسكندرية أغرقوا المئات في القاعة بكلمات بديهية عن الثقافة وتعريفاتها التقليدية، لا تختلف عما درسه طالب المرحلة الثانوية منذ عقود، لأن طالب اليوم لديه مفاهيم واسعة عن الثقافة، تتجاوز كونها سلوكا ومعرفة ونهضة.
حالة التكلس في المشهد الثقافي الراهن، كافية للتعرف على ملامحه بعد عقود، وكافية لتحديد مصير القمة المتخيلة، لأن الكثير من المفردات التي استخدمت في مؤتمر مكتبة الإسكندرية الأسبوع الماضي، غير جديرة بحمل رؤى جذابة وتتأقلم مع مقتضيات الفترة المقبلة
المثير أن هؤلاء المثقفين وهم يتطلعون للقمة فاتهم الحديث عما فعلوا عندما احتلوا مواقعهم الوزارية قبل سنوات، وما الذي منعهم من تطبيق ما يقولونه، وهل لمن أخفق في أداء مهامه يملك قدرة على تقديم النصيحة، ولماذا لم يضعوا كتاب طه حسين المحتفى به الآن نصب أعينهم ويعملوا به.
المثير أيضا أن الكلام خلا من حديث فياض عن ثقافة المستقبل، الحافلة بالعلم والمعرفة والتكنولوجيا الرقمية، ولم نر شابا على منصة المؤتمر يقدم تصورات جيله، الذي يختلف كثيرا عن الأجيال التي سبقته، المنوط بها التفكير له، وبدا الأمر لافتا عندما استغرق البعض في دور الكتاب والقراءة والاطلاع في أشكالهم العادية، كأن إدارة المكتبة تصر على اختراع العجلة مرة أخرى، متجاهلة أن العلم والتقدم والمعرفة الرقمية فاقت الخيال، لأن ما تحتويه الفروع المختلفة الطريق الرئيسي والمكون الحضاري لثقافة المستقبل.
العشرات من الحضور في القاعة كانوا أكثر وعيا وذكاء ممن جلسوا على منصة مؤتمر الإسكندرية، لأن المحتوى العام لثقافتهم جاء متوهجا، وحاولوا ضبط الدفة بالحديث عن ثورة التكنولوجيا وتأثير مواقع التواصل الاجتماعي ودور العلم والمعرفة في دعم الثقافة العربية، وكلما همّ أحدهم بتقديم رؤيته في هذا الإطار، وجد مقرر الجلسة يعيده إلى روشتة طه حسين، بلا زيادة أو نقصان.
التقديس الذي يضفيه البعض على التراث يتجاوز حدود شيوخ الأزهر والسلفيين، لأن من يدعون التنوير زيفا لا يقلون ضررا عن هؤلاء، وتحولت مسألة تجديد الخطاب الديني والتنوير إلى ما يشبه التجارة الرائجة، لها محتكرون كبار، أضروا بالكثير من الأفكار النبيلة، للدرجة التي أصبحنا نحتاج إلى تجديد التجديد وتنوير التنوير، لتتمكن المجتمعات العربية من التعامل مع المستقبل.
بعض شيوخ الثقافة في مصر يشبهون شيوخ الحارة في المناطق الشعبية، كل واحد يريد احتكار المجال الذي برع فيه منذ سنوات، يرفض مبارحته، بصرف النظر عن قيمة إنجازاته وتعدد إخفاقاته، ويمنع ظهور الأصوات المخالفة التي يمكن أن تقارعه الحجة بأخرى أشد وضوحا وانسجاما.
الوجوه الماضوية وطريقة تفكيرها من عوامل الخلل في تطوير الثقافة العربية، لأنها تحتكر الكثير من المنابر، وتشكل جماعات ضغط في مجالات متباينة، وتسعى لمنع من تسول له نفسه قضم جزء من مصالحها، وتكريس حالة الكسل في المجتمع، بما حولها إلى سلسلة مترابطة وعصية على دخول كل من لديهم مساحة من الأفكار المغايرة.
حالة التكلس في المشهد الثقافي الراهن، كافية للتعرف على ملامحه بعد عقود، وكافية لتحديد مصير القمة المتخيلة، لأن الكثير من المفردات التي استخدمت في مؤتمر مكتبة الإسكندرية الأسبوع الماضي، غير جديرة بحمل رؤى جذابة وتتأقلم مع مقتضيات الفترة المقبلة، فمن يقبضون على مصباحها لم يدركوا بعد أن المصابيح الصغيرة يمكن أن تمنح إضاءة أقوى من المصابيح الكبيرة، ولذلك يجب إسناد التجديد لمن يستطيعون التكيف مع متطلبات المستقبل وليس لمن أدمنوا ارتداء أثواب الماضي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يرجى التكرم بالالتزام بقواعد حرية الراي وحقوق النشر

ابحث في الارشيف

الدانة نيوز الصفحة الرئيسية

الدانة نيوز الصفحة الرئيسية
الدانة نيوز هي اداة اعلامية تشكل مدخلا لمعرفة ما يدور في العالم على جميع الاصعدة والمجالات

احدث الاخبار .. الشبكة الاعلامية

إضافة سلايدر الاخبار بالصور الجانبية

العالم الجديد

صفمة المقالات

الاكثر قراءة

تابعونا النشرة الاخبارية على الفيسبوك

-----تابعونا النشرة الاخبارية على الفيسبوك

حكيم الاعلام الجديد

https://www.flickr.com/photos/125909665@N04/ 
حكيم الاعلام الجديد

مشاركة مميزة

ما هي الروح ... لا وجود للروح

ما هي الروح ... لا وجود للروح ما هي الروح من انتم لتفسروا ما هي الروح ؟؟ علق بعض السادة المحترمين على موضوع خرافة الروح وتاكيد...

تابعنا على الفيسبوك

------------- - - يسعدنا اعجابكم بصفحتنا يشرفنا متابعتكم لنا

أتصل بنا

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

شرفونا بزيارتكم لصفحتنا على الانستغرام

شرفونا بزيارتكم لصفحتنا على الانستغرام
الانستغرام

نيو سيرفيس سنتر متخصصون في الاعلام والعلاقات العامة

نيو سيرفيس سنتر متخصصون في الاعلام والعلاقات العامة
مؤسستنا الرائدة في عالم الخدمات الاعلامية والعلاقات العامة ةالتمويل ودراسات الجدوى ةتقييم المشاريع

اعلن معنا

سلايدر الصور الرئيسي

اعلان سيارات

اعلن معنا

اعلن معنا
معنا تصل لجمهورك

خدمات نيو سيرقيس

خدمات رائدة تقدمها مؤسسة نيو سيرفيس سنتر ---
مؤسسة نيوسيرفيس سنتر ترحب بكم 

خدماتنا ** خدماتنا ** خدماتنا 

اولا : تمويل المشاريع الكبرى في جميع الدول العربية والعالم 

ثانيا : تسويق وترويج واشهار شركاتكم ومؤسساتكم واعمالكم 

ثالثا : تقديم خدمة العلاقات العامة والاعلام للمؤسسات والافراد

رابعا : تقديم خدمة دراسات الجدوى من خلال التعاون مع مؤسسات صديقة

خامسا : تنظيم الحملات الاعلانية 

سادسا: توفير الخبرات من الموظفين في مختلف المجالات 

نرحب بكم اجمل ترحيب 
الاتصال واتس اب / ماسنجر / فايبر : هاتف 94003878 - 965
 
او الاتصال على البريد الالكتروني 
danaegenvy9090@gmail.com
 
اضغط هنا لمزيد من المعلومات 

اهلا ومرحبا بكم

وكالة انباء الدانة – مؤسسة عربية مستقلة – متخصصة في الاعلام والعلاقات العامة

ابحث في الموقع عن المواضيع المنشورة




لقاء مع المفكر التوسي يوسف الصديق

* * * المفكر التوسي يوسف الصديق: المصحف عمل إنساني يختلف عن القرآن ويجب الإطاحة بالأزهر والزيتونة