بقلم : محمد محفوظ
إن العالم بأجمعه يتعرض اليوم لاهتــزازات وتناقضات فكرية خطيرة، تتجلى في شتى مظاهر الحياة، وأصبحت التغيرات الفكريــة السريعة حقيقة واقعة. بل هي جزء لا يتجزأ من الحياة المعاصرة، ولم يأخذ هذا التغـــير بعداً واحداً أو حقلاً واحــــــداً، وإنما تعددت أبعاد التغيرات وحقولها، وأصبح من المستحيل التغاضي عن هذه التطورات لهذا ينبغي العمل والاجتهاد، لإزالة العوامل والأسباب التي تمنع استفادتنا من هذه التغيرات والتطورات.
ولا شك أن الجمود والتقليد، من العوامل الأساسية التي تحول دون استفادتنا من هذه التطورات، حيث أن الجمود والتقليد، هو الذي يمنعنا من فهم متغيرات العصر ومميزات الواقع وخصائص الحياة الحضارية، مما يؤدي إلى ضياع شخصية الأمة.
ولا ريب أن هناك خيطاً رفيعاً، يفصل بين الأصالة، باعتبارها مجموعة من القيم الثابتة، التي ينبغي أن تبقى. وبين الأفكار والأشكال التي تنتمي إلى دائرة التقليد التي تبلى، وعلى الإنسان أن لا يبقى أسير حدودها أو متشبثاً بأشكالها.
وبطبيعة الحال، فـــإن بيان الحدود الفاصلة بين الأصالة والتقليد من مهمة أولئك العلماء والمفكرين، الذين أدركوا متغيرات العصر بشكل دقيق، كما هم مدركون إلى حقائق الأصالة.
وينبغي القول في هذا الإطار، إن إخضاع عملية تحديد الحدود بين الأصالة والتقليد لأي إنسان هو الذي جعل ساحتنا الثقافية والفكرية تعيش الفوضى والاضطراب المنهجي، لغياب الحدود واختلاط الثابت بالمتغــــير، وغياب المعايير الدقيقة، لبيان ما هو من الدين والقيم الكبرى وما هو أعراف وتقاليد.وكل هذه الأمور، بحاجة إلى التجديد الثقافي والفكري، الذي يزيل الرواسب العالقة، والنتوءات الثابتة في فضائنا المعرفي من عصور الانحطاط والتخلف.
ماذا يعني التجديد الثقافي:
إن الحديث عن التجديد الثقافي والفكري، في الفضاء المعرفي العربي والإسلامي، لا يعني العمل على استحداث قيم جديدة لا أصول لها، أو لا تتناغم والأصول الفكرية والعقدية لذلك الفضاء. لأن التجديد الثقافي الذي نعنيه، ليس مفصولاً عن المشروع الإسلامي الحضاري في الحقل الثقافي والفكري. لذلك فإن التجديد الثقافي يعني الأمور التالية:
أولا: تجديد الفهم إلى الدين بثوابته ومتغيراته:
فالتجديد هنا لا يتجه إلى الدين كمنظومة من العقائد والأخلاق، وإنما يتجه إلى فهم الناس إلى الدين. بمعنى تنقية أفهام الناس تجاه الدين من الأمور السلبية والقشرية.
إذ أن من الآليات الطبيعية للتجديد في كل الأمم والشعوب والثقافات، هي العودة بفهم جديد ومعاصر إلى الأصول والقيم الكبرى، التي صنعت الحقب التاريخية المجيدة، والتي تحولت إلى حقب نموذجية ومرجعية في الفضاء التاريخي لتلك الأصول والثقافات.
وفي إطارنا العربي والإسلامي تعني (العودة في كل الأحوال، ومهما كان وعي الناس الفعلي بها)، إعادة تفسير مفاهيم النموذج الأصلي على ضوء معطيات العصر القائم، أو بمعنى آخر تفجير طاقات النموذج الأصلي وإظهار ما يحتويه من إمكانيات وتنوعات وطاقات على التوظيف المتعدد في إطار استمرار السياق التاريخي والحضاري العام الذي يمثله أو يندرج فيه. وهذا يعني في الواقع أن كل نموذج، سواء كان منظومة فكرية أو اجتماعية هو منوال أي نمط أول يمكن أن نشتق منه طبعات، أي أشكال متعددة تحتفظ بالهيكل العام أو المخطط، ولكنها تتنوع في وظائفها أو فيما يمكن أن تقوم به من وظائف حسب الحاجات والتوظيفات المطلوبة وحسب الظروف المتغيرة) (1).
وهذا لا يعني إسقاط قيم العصر، على الأصول العقدية والفكرية، وإنما يعني أن فهم العصر والظروف الزمكانية لها مدخلية أساسية في فهم وإدراك آفاق الأصول العقدية والفكرية.
فللمكتسبات الإنسانية والعقلية دور في فهم أصول فكرنا وقيمنا الكبرى، وبهذا نحن لا نفهم التجديد الثقافي والفكري وفق منظور أنه جزء من عملية التماهي بين معاني الفكر العربي والإسلامي وبين معاني الفكر الغربي الحديث، كما أنه لا يعني العمل، على مطابقة قيمنا مع القيم المنتمية إلى المنظومة المعرفية الغربية. وإنما التجديد يعني العمل على إزالة رواسب التخلف والانحطاط من إفهام الناس، بحيث أننا نفهم قيم الدين ومبادئه، كما فهمه الإنسان المسلم في الصدر الأول للإسلام، فهو تجديد في فهم الناس لا في الدين نفسه بما يشكل من قاعدة تصورية وقيم كبرى ثابتة.
ثانياً: الفاعلية:
لا ريب أن وجود حواجز نفسية وتاريخية وركام ثقافي مغاير، هو الذي يمنع أو يحد من فاعلية القيم الأصلية في الحركة الاجتماعية.
فالقيم التي صنعت الحقبة التاريخية المجيدة في فضائنا العربي والإسلامي، هي القيم التي في متناول أيدينا اليوم، ولكن اختلاف الناس وطريقة تفاعلهم مع القيم من جهة، ووجود ركام تاريخي على جوهر القيم من جهة ثانية، هو الذي يمنع عملية التفاعل الطبيعية بين إنسان هذا العصر، والقيم الإسلامية الكبرى التي صنعت تلك الحقبة التاريخية المرجعية. ومن هنا تتأكد ضرورة:
1- تغيير الإنسان وإزالة ركام التخلف والانحطاط عنه، وغشاوة النظر وضبابية الرؤية التي تمنعانه من التفاعل المطلوب مع تلك القيم، حيث لو عاد إنساننا في وضوح رؤيته وصفاء سريرته ونقاء قلبه، كما كان إنساننا بالأمس، لعملت تلك القيم عملها، ودفعت بهذا الإنسان إلى اقتحامه الصعاب والمجهول، في سبيل رفعة شأن الإنسان فرداً وجماعة. وبالتالي فإن إنهاء تأثير ركام سنين التخلف من حياة الإنسان، هو الخطوة الأولى التي تؤهله للتفاعل الحي مع تلك القيم والمبادئ.
2- تنقية الفضاء المعرفي والفكري، من الزوائد التي اعتبرت قسراً جزءاً من المنظومة العقدية والمعرفية، بمعنى أننا من الضروري أن نفرق بين القيم الأساسية التي ندعو الناس إلى التمسك بها والتفاعل الإيجابي معها، وبين الأعراف والتقاليد والاجتهادات البشرية التي مهما رقت في مستواها فإننا من الخطأ بمكان أن نجعلها في مصاف تلك القيم والمبادئ.
لهذا فـإن تنقية أجوائنا الفكرية، من الزوائد والنتوءات، هو الذي يساعد الإنسان على التفاعل الحي مع القيم الأصلية. وفي هذا الصدد، من الأهمية بمكان أن نفرق بين الإسلام كمجموعة من القيم المطلقة والخالدة والقابلة للبقاء والديمومة في كل الأزمنة والأمكنة، وبين الاجتهاد البشري المنسوب إلى الإسلام الذي هو مهما علا شأنه العلمي والمعرفي يبقى اجتهاداً بشرياً نسبياً قابلاً للانطباق مع الإسلام كما هو قابل للمغايرة والاختلاف معه.
من هنا فإن المقدس في هذه الدائرة هو القيم الإسلامية المطلقة المتعالية على الزمان والمكان، ويبقى الاجتهاد البشري في إطار الاحترام والتقدير والتبجيل والاستفادة منه، ولكن كل هذه الأمور لا ترقى إلى مستوى التقديس المطلق أو التعامل معها كما لو أنها الإسلام المعياري.
من هنا فإن التجديد الثقافي المطلوب، لا يعني خلق منظومة فكرية جديدة لا تمت بصلة إلى القيم الإسلامية الكبرى، وإنما يعني إزالة ركام التخلف والانحطاط من موقعين أساسيين: موقع الإنسان المسلم الذي تأثر بشكل أو بآخر من عصور التخلف، وموقع القيم التي شابها بعض الزوائد التي اعتبرت بعد فترة تاريخية بأنها جزء من القيم.
إن تنقية هذين الموقعين، يؤدي بنا إلى التفاعل الخلاق مع منظومة فكرية حية قادرة على الرد الحسن على الحاجات الجديدة الناجمة عن التطور الاجتماعي وتقديم الحلول الأصلية لها.
ثالثاً: الإبداع:
يتضح مما ذكر أن التجديد الثقافي، يتجه إلى إفادة المجتمع الإنساني، عبر تلبية حاجاته النظرية، والإجابة على تساؤلاته ومشكلاته الفكرية. ومن هنا يصبح التجديد ضرورة حضارية، باعتبار أن الإنسان الفرد والجماعة، لا يمكنهما مواكبة تطورات العصر، إلا بعملية التجديد في النظام الثقافي، الذي يدفع الإنسان نحو الإمساك بالقضايا الجوهرية التي تهم الراهن وتجيب على تساؤلاته المصيرية.
ويشير إلى هذه المسألة الدكتور (برهان غليون) بقوله: " لا يعني التجدد بالطبع حصول تغيرات إيجابية بالضرورة على المنظومة الفكرية أو الاجتماعية، أنه يعني تبدل فاعليتها، ونعني بالمنظومة فاعلية اجتماعية منظمة، ويشمل التنظيم ثلاث مستويات، تنظيم القيم والأفكار والمعاني، أي موضوعات التبادل والتداول بين الناس، وتنظيم السلطة المعنوية الداخلية، أو المرتبية التي تشكل أساس القواعد التي تضبط حركة تداول القيم من معان ومفاهيم ورموز، وتنظيم إدارة أو تجسيد القواعد في مؤسسات فاعلة، أي مناسبة لتحقيق الأهداف التي وضعت من أجلها المنظومة، فالمؤسسة تستند إلى ركيزتين، القاعدة، أي قاعدة العمل، والهدف " (2).
وبهذا فإن عملية التجديد الثقافي تقدم ربحاً فكرياً ومعنوياً إلى الإنسان، لأنها بلورت أمامه طرق النمو وآفاق التطور دون أن تحدث له مشاكل نفسية أو تاريخية، وإلى هذا كان الواقع التاريخي لحياة المجتمعات العربية والإسلامية قاطبة، مليء بعمليات الاجتهاد والتجديد، التي تهدف إلى إفادة هذه المجتمعات ورفع مستوى أدائها الفكري والحضاري.
ولذلك فهو واقع تاريخي تضمن الكثير من المدارس الاجتهادية والتجديدية، وقد لاحظ الفيلسوف إقبال في كتابه (تجديد الفكر الديني) أنه وجد من القرن الأول إلى القرن الرابع الهجري مالا يقل عن تسعة عشرة مدرسة فقهية كانت ثمرة لجهود عديدة، اتجهت إلى الإجابة على تطورات الزمن انطلاقاً من القاعدة الإسلامية. لهذا كله ينبغي أن يرتبط مفهوم التجديد الثقافي ارتباطاً عضوياً بمفهوم الإبداع الفكري، أي بما يسمح لمنظومة فكرية، أن تستعيد فاعليتها وقدراتها على الإنتاج المبدع للمعاني الجديدة أو المتجددة.
فالتجديد في جوهره هو عبارة عن تجسيد الوعي، بضرورة صنع الحاضر، وفقا للاختيارات الفكرية الكبرى، والمجدد الفذ، هو الذي يتمكن من تحقيق مقولات الوعي والتجديد الثقافي في الواقع الخارجي. وإن الأرض الخصبة، التي تؤهل المجدد الثقافي، لعمليات الإنتاج المبدع، هي التي تتشكل من جراء التفاعل الخلاق والرشيد بين المجدد أو المفكر والواقع، لا لكي يخضع المفكر مقاييسه ومعاييره المعرفية إلى الواقع، وإنما لكي يكون إنتاج المفكر ذا جدوى وفائدة عملية على صعيد الواقع. لأن ابتعاد المفكر القادر على التجديد الثقافي عن عصره وواقعه يؤدي إلى تكثيف العناصر الكابحة في ذهن المفكر وواقعه، المانعة لعمليات التجديد والإبداع.
إن بذرة الإبداع تنمو في حياة المفكر حينما يبدأ المفكر، وفق منهجية مدروسة وواعية للتفاعل مع قضايا عصره وعلومه. ويبدأ هذا التفاعل بنقد الواقع معرفياً، ومن ثم يبدأ المفكر بتوليد المعرفة الجديدة المبدعة. فمن وهج الحياة وتفاعل المفكر معها، تتولد حالات الإبداع والتجديد الثقافي. لأن الإبداع ليس وليد الفراغ، وإنما هو حصيلـــة الخبرة والتجربة والمعاناة والتفاعل المباشر مع قضايا المجتمع والأمة.
فالإبداع الــــذي نقصده ويساوق التجديد في معناه وآفاقه، ليس مقطوع الصلة بالواقع الثقافي القائم، بل هو ينطلق منه دون أن ينحبس فيه. من أجل تأسيس منظومة ثقافية جديدة، تعيد لنظامنا الثقافي حيويته ودوره في إعلاء شأن الأمة، وتحقيق مفهوم الشهود الحضاري. لأن الإبداع يعني فيما يعني فتح مغاليق الأمور، واكتشاف سبل جديدة لخروج الواقع من محنته، لذلك فهو يتعاطى مع الواقع الثقافي بمفرداته المتنوعة، من أجل إعادة صياغته، بما يساوق دور الأمة التاريخي، ودورها تجاه التحديات المعاصرة.
فالتجديد الثقافي، يعني بلورة الإجابات التفصيلية على مشكلات الواقع حيث أن حركة الواقع السريعة الإيقاع، تفرض على أهل الفكر والوعي مجموعة من الأسئلة والتحديات النظرية التي تبحث عن جواب، يزيل غموض السؤال وقلق التحدي.
فالتجديد الثقافي، هو ذلك الجهد الفكري، الذي يتجه إلى الإجابة عن تلك الأسئلة والتحديات الثقافية والفكرية. ولهذا نجد أن أقطاب التجديد الثقافي في العالم العربي والإسلامي في العصر الحديث، كانوا يواكبون تطورات العصر، ويجيبون على تحدياتها إجابات تنطلق من واقع الخصوصية العربية والإسلامية، وتستهدف تحديد الرأي المطلوب تجاهها.
إذ حاول المجددون في الإطار العربي والإسلامي، أمام تحدي الأفكار والثقافات الغربية، التي حاولت المساس بالفكر العربي والإسلامي وثوابته العقدية ومنطلقاته النظرية، تأصيل ثوابت الأمة وإنضاج خياراتها الفكرية، وبلورة مشروعها النهضوي. ولعل ردود المجدد جمال الدين الأفغاني على المستشرق الفرنسي (رينان) والدهريين تحمل هذا المضمون، وتؤكد على هذه الحقيقة.
ونخلص في معنى التجديد الثقافي بالقول: العمل على بعث الحياة الثقافية العربية والإسلامية من جديد، بعثاً يعيد صياغة منظومتها المعرفية، ويزيل عن مفاهيمها تلوثات التخلف والآثار السيئة لعهود الاستلاب الثقافي والمسخ الفكري، فهو تجديد، يحمل أمل تأسيس خريطة ثقافية جديدة، يشترك الجميع على قاعدة الوطن والأمة في رسمها وتحديد أولوياتها، وبيان منطلقاتها وركائزها وخطوات عملها، متوسلين في سبيل تحقيق ذلك لغة الحوار والتفاهم والانفتاح وقبول الآخر وجوداً وفكراً.
لماذا التجديد الثقافي:
إن الزخم المعرفي والمعلوماتي الهائل الذي تعيشه الإنسانية جمعاء، يحتم علينا جميعاً بلورة نظرية متكاملة للثقافة، حتى يتسنى لنا كأفراد ومؤسسات الاستفادة القصوى من هذا الزخم الضخم.
ومن الطبيعي أن بلورة نظرية للثقافة، لا تتأتى إلا بدعم وإسناد عملية التجديد الثقافي والفكري، لما توفر هذه العملية من آفاق ثقافية جديدة، ونظرات فكرية تجمع البعد التاريخي التأصيلي، وبعد العصر وتطوراته.
من هنا فإن مسوغات التجديد الثقافي في الساحة العربية والإسلامية متعددة بتعدد مواقع التحدي التي تواجه هذه الساحة، وبتعدد الآفاق التي تنتظر الساحة من جراء هذا الاجتهاد والتجديد، لذا من الأهمية أن نجيب على السؤال التالي: لماذا التجديد الثقافي والفكري؟.
1) التجديد الثقافي شرط البعث الحضاري:
إن الخروج من دائرة التخلف التي تلف العالم العربي و الإسلامي في كل جوانبه وحقوله، لا يتحقق على الصعيد العملي، بدون التجديد في النظام الثقافي والفكري السائد في العالم العربي والإسلامي.
لأن التخلف أصاب هذا النظام، وأضحت هناك أنماط ثقافية وفكرية تحول دون النهضة والتجديد.
فالجمود الثقافي وضعف الحيوية الفكرية واضطراب المنهجية الفكرية، وتوفر عوامل وأدوات الاختراق الثقافي والفكري من قبل الوافد والخارج.
كلها عوامل متوفرة في الحياة الثقافية والفكرية للعالم العربي والإسلامي. وهي بدورها تمنع أي عملية تجديد للحياة الثقافية. لأن بقاءها مرهون ببقاء تلك الأرضية الفكرية التي نبتت على سطحها هذه العوامل. ومن هنا فإن تطلعات النهضة الحضارية تبقى آمالاً جوفاء لأن التجديد لم يطل الحياة الثقافية، فلا نهضة حضارية بدون تغيير وتجديد ثقافي. كما أنه لا خروج من دائرة التخلف، من دون الخروج من دائرة الجمود والترهل والخرافة والاتكالية واليباس الفكري والثقافي.
إن بداية الانطلاق الحضارية، هي التغيير الثقافي، ولا يتم هذه التغيير إلا بعملية تجديدية، تتجه إلى إنهاء كل عوامل الجمود في حياتنا الثقافية، وتؤسس لحياة ثقافية جديدة. ترتكز على الأصيل من قيمنا، وإبداع إنساننا في هذا الحقل الهام لعملية البعث الحضاري.
لهذا فإن من الدواعي الأساسية لعملية التجديد الثقافي، هو أنه لا يمكن أن تتحقق تطلعات الأمة العربية والإسلامية في الوثوب الحضاري، بدون التجديد الثقافي والفكري فإذا أردنا أن نكون كأمة رقما صعبا ومؤثرا بشكل حقيقي في الساحة الدولية، فنحن بحاجة إلى التجديد الثقافي، الذي يصقل المواهب، ويبلور الطاقات، ويستوعب الامكانات، ويوظفها بشل حسن وسليم في سبيل الهدف البعيد والتطلع الأسمى.
ودائما كان يسبق أي نهضة حضارية تجديد ثقافي وفكري. فالنهضة الأوروبية في العصر الحديث، لم تحدث إلا بعد نهضة فكرية وثورة ثقافية، ألغت من خلالها كل ركام التخلّف الذي أصاب النظام الثقافي الغربي آنذاك. وحينما تم التجديد في هذا النظام الثقافي والفكري السائد بدأت طاقات الشعوب الأوروبية، تتوجه إلى البناء الحضاري، وبدأت صروح المدنية تعلو في سماء أوروبا الغربية بأسرها. كـــل ذلك بدأ حينما انطلقت عمليات التجديد الثقافي والفكري، تكتسح السيئ من النظام الثقافي السائد.
لهذا كله فإن شرط الانبعاث الحضاري والانطلاقة الشاملة، هو التغيير الثقافي. ولكي تمارس الثقافة دورها المأمول في هذا الإطار، نحن بحاجة إلى التجديد الثقافي والفكري الذي يزيل عن عقولنا ونفوسنا كل رواسب التخلف، التي تمنع تفاعلنا الخلاق مع تلك الأصول.
فمسلسل الهزيمة الذي أصاب العالم العربي والإسلامي في العصور السالفة، كان من جراء الجمود الثقافي أو الأزمة الفكرية التي استفحلت في جسد الأمة وأصابته بالعطب والعقم، فلم تكن تنقص الأمة قيم ومبادئ، لأن القيم والمبادئ التي صنعت تلك الحقبة التاريخية لأمتنا هي ذاتها القيم والمبادئ المتوفرة لدينا حاليا. ولكن الفرق أو الذي تغير، هو الإنسان الذي عجز بفعل ثقافته اللامسئولة وفكره التبريري، أن يتعامل تعاملاً حسناً وفعالاً مع تلك القيم والمبادئ.
وعلى هدى هذه الحقيقة، يتجه التجديد الثقافي، إلى بلورة الشروط المطلوبة لصناعة التفاعل الخلاق بين إنسان هذا العصر وتلك القيم التي تفاعل معها في يوم من الأيام نفر من الناس، فتحولوا بفضلها من حفاة عراة إلى أسياد العالم. ومن مجتمع جاهلي تسوده شريعة الغاب، إلى مجتمع يسوده الحب والوئام والتعاون والتسامح، وتكتنفه طموحات نبيلة تسع العالم كله.
وفي العصر الراهن يشكل الاستلاب الثقافي والمسخ الفكري أهم عقبة فعلية أمام عملية النهوض الحضاري في العالم العربي والإسلامي. لأن هذا الاستلاب يلغي فعالية كل فكرة، ويمنع عملية التفاعل الخلاق مع تلك الأفكار والرؤى، التي تعبر عن أصالة الأمة ونموذجها التاريخي. وإن أخطر أثر يصنعه الاستلاب الثقافي في الأمة، أنه يزيل القدرة الذاتية، التي تدافع عن قيم الأمة وأصالتها، وبالتالي تصبح الأمة لغياب القدرة الذاتية عرضة لكل تيار ومدرسة خارجية. لهذا نجد أن كل المدارس والفلسفات والصراعات المتوفرة في الغرب، متوفرة في بلادنا، وأصبح عملها ونشاطها صدى لعمل ونشاط المدارس والفلسفات في موطنها الأصلي.
لهذا فإن الاستلاب الثقافي، يشكل عقبة كؤود أمام كل فعل تجديدي في الأمة. لأن الأرض الخصبة التي تثري حالة الاستلاب وتبقيها على مستوى العقل والسلوك هي أرضية الجمود والتكلّس الفكري والرتابة العقلية، والخضوع اللاواعي أمام مسلمات وبديهيات، هي إفراز طبيعي من إفرازات عصور التخلف والانحطاط. لهذا فإنه لا نهوض حضاري، يزيل عن الأمة عبء الاستلاب ويمنع المسخ الفكري من ممارسة دوره التخريبي في الأمة، بدون التجديد الثقافي والفكري، فهو الذي يحرك طاقات الأمة، ويزيل الخلل الفكري الذي يحول دون الانطلاق الحضاري. فالتجديد الثقافي هو الإضافة الفعلية والحقيقية إلى النتاج الحضاري للأمة عبر التاريخ.
وبالتالي فهو سبيــل حفظه واستمرارية وجوده في حركة مجتمعنا في كل حقول حياته، وحتى يصبح متماشياً مع متطلباتنا الجمعية. وبإمكاننا أن نحدد موقعنا من إرثنا الحضاري بكلمة وهي: أن نجدد فهمنا للأسباب والعوامل التي صنعته وساهمت في إبرازه. إذ أن تجديد فهمنا للأسباب الخالقة للإرث الحضاري، هو الذي يحرك المجتمع المعاصر نحو الحفاظ على إرثه الحضاري والتاريخي، لأن تجديد الأسباب والفهم للمنظومة الثقافية التي صنعت تلك الثروة هو الذي يؤدي إلى زرع الفاعلية والنشاط والحيوية في الحياة المعاصرة. فلا بعث حضاري، بدون تجديد ثقافي وفكري. فالتجديد هو شرط البعث الحضاري وطريقه.
2) الخروج من المشكلات الكبرى:
إن الأزمات والمشكلات الكبرى (الإستراتيجية) التي يعاني منها عالمنا العربي والإسلامي، لا يمكن أن ننهيها ونتجاوزها، بدون التجديد الثقافي والفكري. فالجمود الحضاري، وغياب الفاعلية الاجتماعية، والتكلس المعرفي، والرتابة الثقافية، والحياة بكل تفاصيلها وعناوينها القائمة على النظــام الأبوي، الذي يلــغي كل هامش مستقل للحركة، ويحارب كل تنوع ثقافي وفكري، ويقصي كل رأي آخر.
إن الحياة بخطوطها المذكورة، لا يمكن أن ننهي مشاكلها، ونمنع تأثير هذه العقلية في مجمل الحياة العربية والإسلامية بدون التجديد الثقافي، الذي يؤهل لنا نظاما ثقافيا جديدا، قائما على احترام التعدد، والقبول بالرأي الآخر، وفسح المجال أمام كل الإبداعات الإنسانية، ومحاربة كل توجه يحاول اختزال الحق والحقيقة في شخصه وكيانه.
فالتجديد الثقافي، هو البوابة الأساسية لمعالجة المشكلات والأزمــات ذات الطابع الإستراتيجي، التي تعاني منه أمتنا العربية والإسلامية. وينبغي الإشارة في هذا المجال، إلى حقيقة تاريخية ـ ثقافية وهي: إن الواقع السيئ الذي يعيشه العالم العربي والإسلامي، ليس منفصلاً عن الواقع الثقافي.. بمعنى أن المظاهر السيئة في الحياة العربية والإسلامية، كان يسندها ويبرر إطارها نظام ثقافي، يدفع باتجاه تكريس الواحدية في كل شيء، واختزال الحقيقة في شخص واحد أو نمط فكري محدد.
من هنا فـــإن الأزمة التي يعــــاني منها العالم العربي والإسلامي، هي بالدرجة الأولى أزمة فكرية ـ ثقافية، انعكست آثارها وتداعياتها على كل جوانب الحياة العربية والإسلامية. (فالانحسار الحضاري الذي نعاني منه هو أزمة فكر أولا وقبل كل شيء، لأن النسق الفكري للحضارة الإسلامية وإسلامية المعارف قد توقفت عند حدود العقول السابقة وكأن الله خلق عقولنا لنعطلها عن الإنتاج، ونعتبر ما أنتجته العقول السابقة نهاية المطاف، وغاية البعد الزماني والمكاني بالنسبة لخلود الرسالة، حتى انتهينا إلى هذا الغياب الحضاري الذي لا بد من العكوف على الذات، واكتشاف أسباب الأزمة وإدراك آثارها، وتحــــديد مواطن الخلل والإصـــابة، واستلهام القيم في صياغة فكرية معاصرة، قادرة على استرداد الشهود الحضاري وامتلاك المقياس السليم، وإعادة بناء الأمة الشهيدة عـــلى الناس: {لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا} (3).
وتأسيساً على هذا، فإن تغيير الواقع السيئ يستلزم صنع أو خلق نظام ثقافي جديد، يحارب الإطار النظري الذي يكرس ويبرر السيئ من الواقع، ويعتبره متناغما مع الأصول الفكرية والثقافية لبيئتنا وفضائنا المعرفي. وهذا بطبيعة الحال لن يتحقق بدون التجديد الثقافي والفكري، الذي يعري ذلك الإطار النظري، ويزيل عنه شرعيته الزائفة، ويفصله عن الفضاء المعرفي (المعياري) الذي يشكل المظلة العقدية والتاريخية لواقعنا.
3) الانبعاث الحضاري:
لا يختلف أحد من الناس حول مظاهر النهضة والانبعاث الحضاري الذي يعيشه عالمنا العربي والإسلامي، حيث أضحت هذه المظاهر متوفرة في كل حقول الحياة، ومتسعة باتساع الرقعة الجغرافية لعالمنا العربي والإسلامي، ولا شك أن هذه المظاهر، وحتى تنظم في سياق واحد، وتنطلق من أرضية نظرية صلبة، هي بحاجة إلى التجديد الثقافي والفكري، الذي يدعم هذه المظاهر، ويوصلها مع مثيلاتها على المستوى التاريخي والمعاصر، ويبلور لها خطط النهوض، ويجيب عن الأسئلة الحرجة التي تواجه مسيرة هذا الانبعاث الحضاري.
فالتجديد الثقافي الذي يتجه إلى صقل طاقات الإنسان، وتنمية مواهبه، وإنضاج مداركه، ويحمله مسؤولية واقعه، هو الذي يؤهل الإنسان للتفاعل مع مسيرة التطوير الحضــــاري في الســــاحة الــعربية والإسلامية ويعمل على ترشيد حركتها وتعميق تجربتها، ويسعى نحو إزالة العوائق التي تمنع انتشارها واتساعها، وبهذا يتحول هذا الإنسان، الذي هو الثمرة العمليـــة لمشروع التجديد الثقافي والفكري، إلى طاقة خلاقة، مهمتها صناعة الخير العام باستمرار، وبهذا يتبلور الهدف الأسمى لمشروع التجديد في الدوائر الثقافية والفكرية، وهو صناعة وبناء ذلك الإنسان الصالح، الذي يتحمل مسؤولياته الاجتماعية والوطنية على أكمل وجه، ومن هنا فإن الساحة العربية والإسلامية بحاجة إلى مشروع ثقافي تجديدي، يحمل إستراتيجية عليا تنبع من ذاتنا الحضارية، وتتناغم مع متطلبات العصر وضروراته، وتحدث تغييرا بنيويا في الواقع الثقافي العربي والإسلامي، بما يخدم المستقبل الثقافي وثقافة المستقبل.
أوليات التجديد الثقافي:
من الطبيعي أن حركة التجديد في الدائرة الثقافية والفكرية، ينبغي أن تلبي متطلبات الواقع بعناوينه المختلفة وعناصره المتعددة.
إلا أن الاستجابة إلى الواقع، ليست مسألة عفوية أو خاضعة إلى المزاج أو الهوى الثقافي، بل من الأهمية بمكان أن تخضع هذه الاستجابة إلى قانون الأهمية وسلم الأولويات.
إذ أن قراءة الواقع بشكل متكامل، توصلنا إلى قناعة أساسية وهي: إن حركة التجديد الثقافي لا بد أن تطال الواقع برمته، إلا أن النجاح في هذه المسألة مرهون بقدرتنا على تحقيق قانون الأولوية في المسائل التي ينبغي أن يطالها التجديد الثقافي أولاً.
وما نقرّه في هذا الإطار، ليس برنامجا تفصيليا لأوليات التجديد الثقافي، بل هو خطوط كبرى لمشروع التجديد في الحقل الثقافي، وفي تقديرنا أن أوليات التجديد الثقافي في الفترة الراهنة يمكننا تحديدها في النقاط التالية:
أولا: التأصيل المنهجي:
لم يكن البعد المنهجي غائباً عن أية فعالية للإنسان الفرد والجماعة، وهو يواجه ظروف واقعه البشري العام أو أحداث الطبيعة وصعوباتها ومشاكلها، عبر مختلف المراحل التي مر بها الإنسان في هذا الوجود.
ذلك إن أية فعالية إنسانية، إنما تستهدف تحقيق غاية وهدف. ولكي تتحقق هذه الغاية لا بد من اختيار المنهج الموصـــل إلى تلـــك الغـــاية والـهدف، كما توحي مقولة (المنهجي) بالوعي والقصدية في العمل والسلوك. فهل أمكن لحضارة ما من البقاء والديمومة بدون المنهجية الواضحة التي هي اختزال للخطط والإستراتيجيات التي تسير وفقهــا الحضارة، وتهندس على أضوائها وهداها الخطوات والمواقف.
وبما أننا نعيش في عصر تحكمه حضارة مبرمجة، وتسعى بتخطيط وتوجيه مدروس إلى السيطرة على مختلف فعاليات الأمة الذاتية والموضوعية. لهذا فإن من أولويات التجديد الثقافي، عملية التأصيل المنهجي، التي مهمتها إعادة قراءة تجربة الذات (الأمة) في الماضي، وصولاً إلى استيعاب محركات الحضارة الفعلية في الوقت الراهن. والتأصيل المنهجي كعقل وسلوك، يأخذ على عاتقه هم العلاقة بماضي الأمة وقيمها الأصيلة هذا من ناحية، وتراث الإنسانية وتجاربها من ناحية أخرى. ولا ريب أن استمرار هذه العلاقة بشكل سليم، يولد حركة ثقافية ومعرفية، تنهض فيها طاقات الأمة في سبيل البناء والتطور.
والرؤية المنهجية أصبحت علما، يستخدم جميع نتاجات العلوم كلها ويختزنها في ذاكرة واحدة، لكشف علاقــات القوانين السارية المفعول وإسقاطاتها على الظروف الآتية.
واختزان المعلومات هو الخطوة الأولى، من أجل اكتشاف نماذج هذه العلاقات ومدى انطباقها على المستقبل.
والتأصيل هنا لا يعني اللهاث وراء المستجد من القضايا الثقافية والفكرية والعمل على أسلمة عنوانها، أو تأصيل حاجاتها وضروراتها في الحقبة الراهنة. وإنما يعني: إيجاد منهجية فكـــرية واضحة، تتحرك ذاتيا وبشكل دينامي نحو متابعة الجديد الثقافي والفكري، والعمل على استيعابه وهضمه، بما ينسجم وتلك المنهجية الفكرية، لهذا فإن المسألة الأساسية في عملية التأصيل الثقافي والفكري، هي بلورة ذلك المنهج الفكري الواضح، القادر على استيعاب الجديد ومواكبة التطور، دون تكلف عناء التلفيق أو الإسقاط المنهجي والثقافي.
وبهذا تتم عملية الاستيعاب والتجاوز إلى الحركة الثقافية الإنسانية الجديدة حيث تستوعب عناصرها الإيجابية، وتتجاوز عناصرها السلبية والسيئة. ولا بد من القول، إن وجود منهج فكري، نتعاطى من خلال أدواته ونظمه ووسائله مع المستجدات الثقافية والفكرية، سيوفر لنا الكثير من الجهود وسيختصر لنا الطريق، وسيمكننا من اجتياز التحديات الثقافية والعلمية الراهنة.
فشرط التقدم العلمي والثقافي، هو وجود منهجية واضحة المعالم، تبلور طرق النهوض العلمي والثقافي. كما أن هذه المنهجية ستجعل كل مفرداتها الثقافية في سياق واحد، منتظمة أجزاؤه، ومتكاملة عناصره، بداياته ترمز إلى نهاياته، ونهاياته تؤكد بداياته.
والتجديد الثقافي ينبغي أن تعطى الأولوية فيه إلى مسائل المنهج والنمذجة، حتى يتسنى لنا جميعاً إدراك تطورات العصر العلمية والثقافية، وامتلاك ناصيتها.
ونحن لو تأملنا في التجربة اليابانية، على المستوى الثقافي والعلمي لاكتشفنا أن اليابان في بدايات انطلاقتها العلمية والاقتصادية بعد الحرب الكونية الثانية، لم تنطلق بدون هدى ومنهجية واضحة، وإنما هي انطلقت على قاعدة ومنهجية مبادئ الإصلاح التي أرسى دعائمها (ميجي)، والسعي إلى معرفة الاكتشافات العلمية الجديدة على ضوء تلك القواعد والمبادئ المنهجية. لذلك لم تمر إلا سنوات قليلة، وإذا باليابان قد أصبحت في مصاف الدول المتقدمة اقتصاديا وصناعيا وعلميا.
فبسبب المنهجية الواضحة، وحب العمل، والتفاني في تحقيق المطلوب على مستوى العمل والوظيفة، أصبح الوضع الياباني وفق إحصائيات عام (1991م) كالتالي: أهم سبعة بنوك من أصل عشرة يابانية و(29) من أكبر (100) بنك في العالم يابانية. وتمتلك ألمانيا (12) بنكا وفرنسا (10) ولكل من أمريكا وإيطاليا (9) بنوك. وفي شركات التأمين العالمية (4) من أصل أهم (5) شركات يابانية. وأكبر (34) شركة من أصل (100) شركة في العالم يابانية. (4).
فاضطراب المنهـــج أو غيابه من الساحة الثقافية والفكرية، يؤدي إلى أزمات متلاحقة، أيسرها أن الأمة بإمكاناتها المادية والبشرية، لا تستطيع النهوض الحضاري.
وبالتالي فإن التأصيل المنهجي في الدائرة الثقافية والفكرية يعني:
بلورة المرجعية المعرفية، إلى جملة الأنشطة الثقافية والآفاق الفكرية، والتطلعات التي يتطلع إليها الإنسان في هذا الإطار. والإطار المرجعي هو المصدر الذي يستمد منه المفكر توجيهاته النظرية في الوصف والتفسير والمواقف المترتبة على ذلك.
وغني عن القول: إن غياب الإطار المرجعي لمجموع المفردات الثقافية المتداولة في الساحة، يؤدي إلى تشتت الجهود، وعدم قدرة الثقافة كمجموعة من المناشط والآليات على تحقيق تطلعاتها العليا في الواقع الخارجي.
فتطور التحديات الثقافية من عصر لآخر، وتبدل عناوين المواجهة الفكرية من حقبة لأخرى يؤكدان على ضرورة توفر الإطار المرجعي الذي يمد الساحة باستمرار بمتطلباتها الثقافية والفكرية.
والعناية الجادة بأصول الثقافة العربية والإسلامية، لصياغة الحلول والمعالجات المنضبطة بضوابط تلك الأصول، والمتجهة في الوقت ذاته إلى معالجة مشاكل الواقع المستجدة أو توفير متطلبات ذلك الواقع. فالتأصيل المنهجي عبارة عن جهد فكري متواصل يتجه إلى فهم النص الشرعي المتعالي على الزمان والمكان والخالد، وفهم الواقع النسبي والمتغير باستمرار.
وعن طريق هذا الجهد الفكري، الذي يلحظ جانب الثابت والمتغير، يتحقق مفهوم التأصيل المنهجي في العملية الثقافية والفكرية. وبهذه الطريقة استطاع المسلمون أن يستجيبوا إيجابيا لتطورات الحياة ومتغيرات العصر، فأثريت الساحة الفكرية بالكثير من الآراء والاجتهادات ذات الطابع الأصيل، الذي يعالج مشاكل عصرية وحديثة.
ثانياً: صنع البديل الحضاري:
من البديهي القول أن حركة الحياة العلمية والثقافية السريعة، أوجدت في الساحة مجموعة من التصورات والقناعات الفكرية الجديدة.
وأضحى لهذه القناعات، التأثير الكبير على مسيرة الإنسان الفرد والجماعة كما أصبح لهذه الأفكار التأثير المباشر على الأوضاع العامة للبلاد العربية والإسلامية، فبعضها يوجه السياسات التعليمية كما أن بعضها الآخر، يوجه الحياة الإعلامية والسياسية والاقتصادية.
والمحصلة النهائية لكل هذا، هي أن هذه الأفكار والثقافات التي أصبح لها تأثير فعلي ومباشر على مجمل وتفاصيل حياتنا. بحاجة أن نتأمل في واقعها الفلسفي وامتداداتها المعرفية، ونعرضها على ثوابتنا العقدية والفكرية، للعمل على هضم وتأصيل المناسب منها وطرد المناقض لثوابتنا ومرتكزاتنا النظرية.
ومن هنا تنبع أولية العمل لخلق البديل الحضاري، الذي يؤدي إلى خلق مناخ، يشعر فيه الإنسان بضرب من التواصل الفعال بينه وبين الثقافات الإنسانية، والبديل الحضاري لا يتكون بقرار، ولا ينهض من العدم والفراغ. وإنما هو عبارة عن عملية تاريخية معقدة، وخاضعة في تكوينها إلى عوامل عدة. ينبغي أن تتكامل وتتفاعل مع بعضها البعض، حتى تتأسس النواة الأولى لمشروع البديل الحضاري.
ويبدأ البديل على المستوى الفعلي بالتشكل والنمو، حينما يكون المشروع الفكري والثقافي المطروح في الساحة استجابة صحيحة للواقع المعاش. أما إذا كان هناك تباعد بين المشروع الثقافي والواقع، فإن البديل لا يمكن أن يتحقق في الفراغ.
فالظرف الموضوعي الأساسي، الذي ينبغي أن يتوفر لانطلاقة البديل في الساحة الثقافية والفكرية هو مجرد علاقة صحيحة وضمن معطيات محددة، تربط مشروع النهوض بالواقع. ودون ذلك سيبقى الفكر يكرر نفسه، ويدور في حلقة مفرغة، وسيبقى الواقع بسيئاته يتضخم ويتوسع ويأخذ أبعاداً متنوعة.
وباعتبار أن الواقع يشكل حالة مشخصة وموجودة ويتأثر بها الإنسان سلبا وإيجابا. لذلك فإنه لا يمكن تغييره بمجموعة من الشعارات المجردة التي لا نصيب لها من الفعل في الواقع، أو لا توجد قوى اجتماعية تحمل على عاتقها تنزيل هذه الشعارات إلى واقع ملموس.
ولعلنا نستطيع القول: إن الاسترسال في طرح الشعارات والعناوين العامة، دون العمل الجدي على تحويل تلك الشعارات والعناوين إلى برنامج وخطط تفصيلية تشكل بمجملها مشروع البديل الحضاري. يعد أحد الأسباب المهمة التي تجعل مشروع النهوض في الواقع العربي والإسلامي يراوح مكانه. لأن الدعوة إلى التغيير دون تقديم البديل من أكبر عوامل الفشل في التغيير، بل لعلها من أسباب التمسك بالواقع. إذ يقع في نفوس من سيطر، عليهم ذلك الواقع، أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، فتنشأ نزعة التبرير التي تسعى إلى إكساء الباطل شرعية الحق بمنطق الواقعية المنحرفة، وذلك ضرب من ضروب دفاع الباطل عن نفسه استغلالا لفطرة الإنسان التي تركن إلى ما هو معروف بمواصفاته الشخصية، وتنفر مما هو مجهول أو ما هو معروف بمواصفاته العامة. ومن أكبر الأخطاء التي وقع فيها الفكر الإسلامي الإصلاحي الحديث أنه دعا إلى التغيير، ولكنه لم يشخص البدائل التي يريد أن تسود حياة المسلم) (5).
وفي أطار ضرورة العمل على المستوى الثقافي والفكري لبلورة البديل الحضاري، من الأهمية التأكيد على النقاط التالية:
1- إن صنع البديل الحضـــاري لا يأتي دفعة واحدة، وإنما يتشكل بصورة تدريجية، حيث أن البديل هو عبارة عن بناء متكامل الأبعاد. ولبنات هذا البناء لا تنجز مرة واحدة. لهذا فإن العمل على إصلاح الجزء، وتوفير متطلبات تحقيق اللبنة الأولى، يعد عملا حقيقياً باتجاه الوصول إلى البديل الحضاري الشامل. فكما أن الواقع لم يتشكل دفعة واحدة، وإنما هو عبارة عن مجموعة من الأعمال والأنشطة والمواقف والتصرفات. كذلك فإن تغيير الواقع أو خلق البديل الحضاري للواقع المتخلف لا ينجز دفعة واحدة، وإنما عبر الإنهاء المتسلسل إلى فقرات وعناصر الواقع المتخلف فإنهاء أية ظاهرة من ظواهر التخلف في الواقع الخارجي، يعد عملا صميميا باتجاه الوصول إلى ذلك البديل المنشود.
لهذا فإن الحلول الحضارية التي ننشدها أو ندعو لها، لا تعتبر حلولا سحرية، بل هي من كسب الإنسان واجتهاده المتواصل.
أرأيت -عزيزي القارئ- كيف أن البناء يبنى لبنة لبنة، وجزءا جزءا، وكذلك البناء الحضاري فهو يتشكل في الواقع الخارجي من مجموع تلك الأنشطة والأعمال الحسنة والإيجابية، التي تعتبر جميعها عملا حضارياً متجهاً إلى اكتمال عتبات البديل الحضاري.
2- إن الزمن من العناصر الحيوية التي ينبغي أن تراعى في عملية صنع البديل. فلا يعقل أنه في برهة زمنية وجيزة، يمكن أن تتشكل كل عناصر البديل وأدواته. لهذا فإنه من الضروري أن نعطي لأفكارنا وتصوراتنا الثقافية والحضارية فرصة زمنية كافية. من خلال هذه الفرصة نختبر صدق وسلامة تلك الأفكار والتصورات، كما نتعرف على التحديات الذاتية والموضوعية التي تواجه تلك الأفكار.
3- ضرورة الانتقال في العمل الثقافي من مرحلة الهدم إلى مرحلة البناء، بمعنى أنه ينبغي أن تتوجه الكثير من الجهود والأنشطة الفكرية، إلى صياغة البدائل المقترحة عن الواقع المعاش.
ثالثاً: العمل المؤسسي:
ثمة داء لا زال يستفحـل ويتضخم في حياتنا العربية والإسلامية، ويأخذ أبعاداً متعددة. وهو داء الاختزالية، إذ أننا مهووسون جميعاً باختزال حياتنا بثرائها المتعدد، ضمن أطر ضيقة قد لا تتعدى في بعض الأحيان شخصاً واحداً، يمسك بجميع عناصر الحياة، ففي حياتنا الاجتماعية، نختزل الأسرة كمؤسسة اجتماعية في شخص رب الأسرة وهو الرجل، وكأن الأسرة مؤسسة ذكورية. وفي حياتنا الثقافية والفكرية، يتضح داء الاختزال، في دفع الساحة الثقافية والفكرية باعتبارها مجموعة من الرموز الفكرية فاختزلنا حياتنا الثقافية في أشخاص. كما أن حياتنا السياسية في كثير من جوانبها وأبعادها قد اختزلناها في مجموعة من الزعامات، بحيث إننا لا نرى الحياة السياسية إلا من خلال هذه الزعامات.
وهكذا بقية جوانب حياتنا، حيث أن داء الاختزال، يلتهم كل عناصر التنوع والثروة المتوفرة في حياتنا العربية والإسلامية، ويبرز هذا الداء بشكل واضح في واقعنا العربي والإسلامي، من غياب كل مظاهر المأسسة، والعمل المؤسسي في كل حقول حياتنا واستفحال ظاهرة الفردية والأنشطة الشخصية ونظرة واحدة إلى المؤسسات العربية الجماعية، ونكتشف هذه الحقيقة بسهولة. حيث أن أغلب مؤسساتنا الجماعية تعاني من مشكلات عديدة حولتها إلى جثث هامدة، لا تستطيع الحراك والممارسة الإيجابية في مسيرة العمل العربي المشترك. فالأصل في أنشطتنا أن تكون فردية وموغلة في الشخصانية. ودائما ننظر إلى الأنشطة المؤسسية بنظرة الريبة، ومخالفة الأصل والطبيعة، لهذا فإن من أوليات التجديد الثقافي، هو العمل على تغيير نمط التعامل مع القضايا والأمور. ونقل النمط من واقعه القائم على الفردية إلى نمط مؤسسي، بحيث أن المؤسسة هي التي تدير أمورنا في مختلف الحقول والجوانب.
وغني عن القول: إن العمل المؤسسي في إدارة أمورنا المختلفة، ليس بالأمر السهل واليسير، بل هو يحتاج إلى الكثير من الجهود المتنوعة التي ترسي بعد زمن قواعد المأسسة في واقعنا الاجتماعي، وتوجد نوعا من المواءمة الواعية بين ضرورة المؤسسة في إدارة شئوننا وأمورنا، وبين هامش الحرية الذي ينبغي أن يتاح للفرد ومبادراته، ومن أجل تحقيق هذا التطلع، من الضروري بث ثقافة العمل الجماعي المؤسسي القائم على التعاون والشورى، وإعادة الاعتبار إلى القيم الكبرى، التي تؤكد قيمة العمل الجمعي المؤسسي، وتبرز نظام علاقاته الداخلية.
فالشورى والحرية والسلام والعدالة والتعاون، ليست قيماً فردية بحته، بل تحمل في جنباتها الكثير من الإبعاد الجمعية. وإننا في عملية التجديد الثقافي، أحوج ما نكون إلى تأصيل هذه القيم في حياتنا الاجتماعية، وإبراز مداليلها العامة، وإننا بحاجة إلى أن نبلور خطابا ثقافيا متكاملا، يبلور الامكانات المتاحة في فضائنا المعرفي للانتقال من نمط الاختزال في العقلية الإدارية إلى نمط العقل الجمعي في التفكير وإدارة الأمور.
الخاتمة:
إن التجديد الثقافي والفكري، الذي ندعو إلى بلورة أطره المعرفية، وإنضاج طرقه العلمية والعملية، ليس مختصاً بزمن دون آخر، أو بساحة دون أخرى. وإنما هو تجديد يتجه إلى كل الأزمنة وإلى كل الساحات، لأن كل زمن هو بحاجة إلى ثقافة تلبي متطلباته وتعالج مشكلاته الملحة. كما أن كل ساحة ترتب أولويات نشاطها وحركتها الثقافية، بما ينسجم والظروف التي تعيشها. وبالتالي فإنه لا يمكن أن نستفيد من القيم الكبرى والنبيلة التي يتضمنها الدين الإسلامي، إذا لم نحفز عقولنا، ونجدد فهمنا، ونمنهج نظراتنا تجاه تنزيل هذه القيم على واقعنا بشكل سليم، لما لهذه العملية من خير عميم وفائدة جمة، لأن هذه القيم تعتبر ثروة حقيقية ونوعية، ومن الحمق التغافل عنها أو إبقاء عقولنا بعيدة عن آفاقها، والأطر التي ترسمها لحركة الحياة. كما أن الإنجازات العقلية والعلمية والإنسانية لا يمكننا هضمها، إذا لم نجدد نظامنا الثقافي وحركتنا الفكرية باتجاه الحيوية الذهنية والمرونة الثقافية، التي تؤهل نظامنا الثقافي للاستفادة القصوى مــــن هذه المنجزات، التي لا يمكن لمجتمع أن يعيش بدونها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يرجى التكرم بالالتزام بقواعد حرية الراي وحقوق النشر