إشكالية كتابة تاريخ عربي موحد

. . ليست هناك تعليقات:

الكاتب :’مسعود ضاهر

شكّل التاريخ العربي مكوناً أساسياً في الثقافة العربية والإسلامية. وبدأت الدراسات تأخذ منحى علمياً عند تدوين الأحاديث النبوية، ثم تعددت الأسباب الموجبة لضبط الروايات التاريخية حول نشأة الدولة الإسلامية وتطورها بعد الفتوحات، وتوثيق الأنساب، والأعمال الإدارية، والمشكلات الاجتماعية، وغيرها.

وبرزت أسماء المؤرخين الأوائل من أمثال الطبري، والمسعودي، والسخاوي، والبلاذري، والواقدي، وغيرهم. ثم اتجهت الكتابة التاريخية إلى دراسة تطور المدن، وحركات العامة، والقضايا الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.

وحده ابن خلدون تفرد عن باقي المؤرخين العرب بتقديم نظرية علمية متكاملة، لفهم التاريخ العربي والإسلامي عبر مقولات نقدية، وبلور فلسفة على درجة عالية من الأهمية في كتابة التاريخ، رسم فيها مغالطات المؤرخين، ودور العصبية في بناء الدولة، وأطوار الدولة، وغائية التاريخ، ومدى استفادة الأجيال المتعاقبة من دروسه وعبره.

لكن قلة من المؤرخين العرب استفادت من مقولات ابن خلدون النقدية، وكثيراً ما كان يدرس التاريخ العربي بمعزل عن التاريخ العالمي، مما أفقد الدراسات التاريخية العربية القدرة على إبراز أثر الحضارة العربية الإسلامية في الحضارة الغربية الحديثة، وموقع التاريخ العربي في التاريخ العالمي، ومدى إسهام العرب في الحضارة الإنسانية.

مؤخراً، كلّفت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، الدكتور عبد العزيز الدوري بإعداد موسوعة التاريخ العربي، لكنها تعثرت لسنوات عدة قبل أن يصدر بعض أجزائها غير المكتملة، وفور نشرها تعرضت لانتقادات كثيرة، استوجبت إعادة النظر فيها. وغالباً ما تكون إعادة النظر بمثابة كتابة جديدة، استناداً إلى قراءة المصادر التاريخية برؤية مغايرة.

هكذا تبدو كتابة التاريخ العربي الموحد فردية، ولم تنتظم ضمن مشروع عام لكتابة تاريخ العرب الشامل، وفق مخطط متكامل يقدم تاريخ كل دولة عربية بشكل مكثف، ومن خلال منهج علمي ديناميكي يتضمن مقولات ثقافية ذات صدقية توثيقة وتحليلية، من حيث الفرضيات والاستنتاجات، وتقيم التوازن بين التاريخ الوطني والتاريخ القومي، في إطار التاريخ العالمي الشامل أو الجامع.

إن كتابة التاريخ العربي لا تزال عرضة لتبدلات جذرية، على قاعدة أن التاريخ يكتبه المنتصر. لكن المنتصر العربي غير محدد المعالم، ونادرا ما نال ثقة الناس ليمارس الحكم بصورة شرعية.

وباستثناء دراسات علمية ذات طابع اقتصادي واجتماعي ومسندة إلى وثائق ذات صدقية عالية، تكاد تنعدم الكتابة التاريخية التي تقدم صورة موضوعية عن أي نظام سياسي عربي، غير قابلة للتغير الجذري فور تبدل السلطة، وتراجع تدريس التاريخ الوطني الموحد والعربي العام، في غالبية الدول العربية، وفي مختلف مراحل التعليم.

ومع أن مناهج البحث العلمي في التاريخ الغربي قدمت نماذج هامة، تمكن الاستفادة منها لقيام منهج أصيل للبحث في التاريخ العربي، فإن غالبية الدراسات التاريخية العربية ما زالت تشكو غياب الدقة والموضوعية.

وليس صدفة أن تفتقر المكتبة العربية إلى موسوعة تاريخية واحدة، تعبر بدقة عن تاريخ العرب العام أو الشمولي عبر مختلف الحقب التاريخية. ورغم المبالغ المالية الكبيرة التي رصدتها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم لكتابة موسوعة التاريخ العربي بطريقة علمية، فإن التجربة باءت بالفشل، ولم تتجدد.

نخلص إلى القول إن كتابة تاريخ موحد، في كل دولة عربية أو على المستوى العربي العام، قليلة أو نادرة، وما نشر في هذا المجال لا يتطابق مع نظرة كل دولة إلى تاريخها الوطني أو المحلي. وذلك يتطلب بذل جهود كبيرة للتدقيق في المرويات التاريخية، التي لعبت دوراً بارزاً في نشر ثقافة تاريخية عامة تفتقر إلى الدقة.

ولا بد من إعداد جيل واسع من المؤرخين الاجتماعيين، القادرين على كتابة التاريخ بصورة موضوعية، استناداً إلى مقولة علمية تؤكد أن علم التاريخ من أكثر العلوم الإنسانية انفتاحاً على فروع المعرفة البشرية. وهو علم متطور باستمرار، وغايته رصد وتحليل أعمال الناس في أماكن عملهم، وعلى المدى الزمني الطويل.

المنهج الاجتماعي الذي يتضمن السياسي والاقتصادي والثقافي، هو الركيزة الصلبة لكتابة تاريخ علمي على مختلف الصعد. كما أن البحث التاريخي الرصين، يستوجب نقد المرويات التاريخية العربية لإثبات صدقيتها قبل الاعتماد عليها. وليس التأريخ عملاً أكاديمياً فحسب، بل يحتل موقعاً متقدماً في مجتمع المعرفة الذي تنشده الدول العربية دون أن تحققه.

وينبني مجتمع المعرفة على العلوم العصرية والتكنولوجيا المتطورة، التي تساعد المؤرخين العرب على تقديم قراءة جديدة لتاريخهم الوطني، وفق رؤية شمولية لموقع العرب في التبدلات العالمية المتسارعة في عصر العولمة.

فالحقائق التاريخية نسبية ومتبدلة باستمرار، والنظرة إلى التاريخ تتغير عند الكشف عن وثائق جديدة، واعتماد مناهج علمية عصرية تساعد على تقديم الحقائق التاريخية بصورة أكثر دقة وموضوعية.

وفي عصر العولمة والتكتلات الجغراسية الكبرى، لم يعد هناك مجال لكتابة تاريخية إيديولوجية تمجد الماضي الذهبي وتدعو إلى إحيائه في الحاضر. ولا بد من اتباع منهج علمي تطوري في دراسة تاريخ العرب، لإظهار مدى مشاركتهم في التاريخ الإنساني ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.

لقد لعبت اللغة العربية عامل تواصل مستمر بين الشعوب العربية، وحافظت على التراث العربي والهوية العربية، وكان لها دور بارز في تحديد خارطة الوطن العربي في التاريخ العالمي.

لكن البحث في التاريخ العربي ما زال أسير مفاهيم تاريخية تقليدية، تجاهلت، في الغالب، النظريات العلمية الحديثة في دراسة تاريخ المجتمعات على أسس علمية، أبرزها وضوح المنهج والفرضيات. ولا تستقيم كتابة التاريخ العربي عبر مختلف حقبه، إلا عبر النظر إليه بعيون الحاضر وثقافته الكونية.

وليس المطلوب إعادة كتابة التاريخ باستمرار، بل كتابته دوماً بعيون الحاضر، وبرؤية علمية رصينة. ولا فائدة تذكر من رفع شعارات إيديولوجية لم تثبت صدقيتها في كتابة التاريخ العربي، وفق رؤية قومية عربية أو إسلاموية إيديولوجية تلغي خصوصية التاريخ الوطني.

ولا تستقيم كتابة التاريخ الوطني دون ربطه بالتاريخ العام، القومي والعالمي، وفق رؤية شمولية للتبدلات السياسية والاجتماعية والثقافية، التي شهدها العرب منذ تشكلهم كمجموعة بشرية تعيش حياة اجتماعية واقتصادية وثقافية متشابكة، يؤثر بعضها في البعض الآخر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يرجى التكرم بالالتزام بقواعد حرية الراي وحقوق النشر

ابحث في الارشيف

الدانة نيوز الصفحة الرئيسية

الدانة نيوز الصفحة الرئيسية
الدانة نيوز هي اداة اعلامية تشكل مدخلا لمعرفة ما يدور في العالم على جميع الاصعدة والمجالات

احدث الاخبار .. الشبكة الاعلامية

إضافة سلايدر الاخبار بالصور الجانبية

العالم الجديد

صفمة المقالات

الاكثر قراءة

تابعونا النشرة الاخبارية على الفيسبوك

-----تابعونا النشرة الاخبارية على الفيسبوك

حكيم الاعلام الجديد

https://www.flickr.com/photos/125909665@N04/ 
حكيم الاعلام الجديد

مشاركة مميزة

ما هي الروح ... لا وجود للروح

ما هي الروح ... لا وجود للروح ما هي الروح من انتم لتفسروا ما هي الروح ؟؟ علق بعض السادة المحترمين على موضوع خرافة الروح وتاكيد...

تابعنا على الفيسبوك

------------- - - يسعدنا اعجابكم بصفحتنا يشرفنا متابعتكم لنا

أتصل بنا

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

شرفونا بزيارتكم لصفحتنا على الانستغرام

شرفونا بزيارتكم لصفحتنا على الانستغرام
الانستغرام

نيو سيرفيس سنتر متخصصون في الاعلام والعلاقات العامة

نيو سيرفيس سنتر متخصصون في الاعلام والعلاقات العامة
مؤسستنا الرائدة في عالم الخدمات الاعلامية والعلاقات العامة ةالتمويل ودراسات الجدوى ةتقييم المشاريع

اعلن معنا

سلايدر الصور الرئيسي

اعلان سيارات

اعلن معنا

اعلن معنا
معنا تصل لجمهورك

خدمات نيو سيرقيس

خدمات رائدة تقدمها مؤسسة نيو سيرفيس سنتر ---
مؤسسة نيوسيرفيس سنتر ترحب بكم 

خدماتنا ** خدماتنا ** خدماتنا 

اولا : تمويل المشاريع الكبرى في جميع الدول العربية والعالم 

ثانيا : تسويق وترويج واشهار شركاتكم ومؤسساتكم واعمالكم 

ثالثا : تقديم خدمة العلاقات العامة والاعلام للمؤسسات والافراد

رابعا : تقديم خدمة دراسات الجدوى من خلال التعاون مع مؤسسات صديقة

خامسا : تنظيم الحملات الاعلانية 

سادسا: توفير الخبرات من الموظفين في مختلف المجالات 

نرحب بكم اجمل ترحيب 
الاتصال واتس اب / ماسنجر / فايبر : هاتف 94003878 - 965
 
او الاتصال على البريد الالكتروني 
danaegenvy9090@gmail.com
 
اضغط هنا لمزيد من المعلومات 

اهلا ومرحبا بكم

وكالة انباء الدانة – مؤسسة عربية مستقلة – متخصصة في الاعلام والعلاقات العامة

ابحث في الموقع عن المواضيع المنشورة




لقاء مع المفكر التوسي يوسف الصديق

* * * المفكر التوسي يوسف الصديق: المصحف عمل إنساني يختلف عن القرآن ويجب الإطاحة بالأزهر والزيتونة