الاساطير المؤسسة للاسلام السياسي

. . ليست هناك تعليقات:

الاساطير المؤسسة للاسلام السياسي 

تقوم العَلمانية على مبدأ التدبير العقلاني للسياسة، بمعزل عن الحجج الغيبية التي يغلب عليها الظن، وعن الحجج النقلية التي تبقى ترجيحية وحمالة أوجه، وعن التهييج الانفعالي الذي يؤجج الغرائز البدائية لدى الإنسان ( غرائز الغيرة، والنصرة، والغضب، والثأر، والحمية، إلخ ) على حساب الحكمة والمعرفة والفهم. لذلك، كانت العلمانية مصلحة للجميع بلا استثناء. هذا ما يقوله الحس السليم. لكن، في مواجهة هذا المبدأ العقلاني، لوّح الإسلام السياسي بخمس أطروحات اعتراضية فضفاضة، اتخذت في الغالب شكل شعارات غوغائية صاخبة لغاية ابتزاز السياسيين، وإحراج المواطنين، واستقطاب أصوات الناخبين، بل لعلها في واقع الأمر خمس أساطير مؤسسة للإسلام السياسي بكافة ألوانه وأطيافه. سنحاول أن نبسط القول فيها
بياناً وتفكيكا :
أولاً، يجب على المسلمين أن يطبقوا الشّريعة بدل القوانين الوضعية : هذا الشعار المغري والجذاب والذي يدغدغ المشاعر الدينية للشعوب، يمثل خديعة أولى وفريّة كبرى يروج لها أنصار الإسلام السياسي بكل أطيافهم وبدرجاتهم المتفاوتة في الحدة والشدة. وهو شعار يصدق عليه نفس القول الذي قاله علي بن أبي طالب عن شعار “لا حكم إلا لله” لَما رفعه
الخوارج، حين قال : “كلمة حق يراد بها باطل”. والحقيقة الضائعة هنا أنّ الشّريعة ليست العقيدة بأي حال، ولا هي “معلوم الدين بالضرورة” كما يقال من باب التعمية والتمويه، ليست الشريعة منطوق الوحي، ولا أقوال الرّسول (ص)، ولا حتى كلام الصحابة، بل الشريعة هي كلام الفقهاء حصرا، إنها ثمرة ذلك الجهد التّشريعي الذي بدله الفقهاء على مدى مئات السنين وهم يحاولون أن يستنبطوا من بعض آيات القرآن الكريم وبعض أحاديث الرّسول -بإضافة بعض أقوال الصحابة والتابعين في بعض الأحيان- أحكاما عامة تحاول أن تجيب عن مسائل لا تشملها نوازل النص الأصلي ولا تشملها أسباب النزول. إنّه الجهد الذي أفضى في الأخير إلى عشرات الأحكام الترجيحية في تفاصيل كل مسألة أو نازلة على حدة. من جهة أخرى فإنّ هذا الجهد الفقهي جاء موسوما بمفاهيم العصر الإمبراطوري الذي نشأ فيه، عصر التوسعات الإمبراطورية، ما جعله في الأخير غير متناغم مع عصر الدّولة الوطنية الذي يُفترض أننا دخلنا إليه منذ عقود، وغير متناغم مع زمن العولمة وما يقتضيه هذا الزمن من ترسيخ لقيم التضامن الإنساني وحفظ النوع البشري، بمعزل عن العصبيات الدينية والمذهبية والطائفية، وبمعزل عن عقيدة الولاء والبراء، والفرقة الناجية، وتقسيم العالم إلى دار حرب ودار إسلام،وما إلى ذلك.
ثانياً، يجب على المسلمين أن يعتبروا القرآن دستورهم الأوحد، ولا دستور غيره : وهذه خديعة ثانية وفرية أخرى روّجت لها جماعات الإسلام السياسي سواء في السر أو في العلن، وهي في هذا الباب تخالف منطوق الخطاب القرآني؛ لإنّ القرآن الكريم الذي أطلق على نفسه عشرات الأوصاف ( الذِكر، الفرقان، الهدى، البيان…) لم يطلق على نفسه صفة الدّستور، ولا اختار لنفسه صفة قريبة الدّلالة من معنى الدّستور. ثم أنّ القرآن حمال أوجه كما قال عنه علي بن أبي طالب، وفيه محكمات ومتشابهات، وفيه آيات ناسخة وأخرى منسوخة. وليس هكذا يكون الدستور. ثم أنّ الدّستور في أصله وأساسه تعاقد مدني بين المواطنين، تعاقد خاضع للنقاش والمصادقة والتعديل. وهذا ما لا ينطبق على القرآن الكريم. ثم أنّ ملايين المسلمين في عالم اليوم في اندونيسيا وماليزيا وتركيا وإيران وغيرها، وحتى في أوروبا وروسيا وجنوب إفريقيا والولايات المتحدة وغيرها، يصلون بالقرآن الكريم ويتعبدون بقراءته أو بالاستماع إليه، دون أن يفقهوا شيئاً من اللغة العربية، اللهم كلمة واحدة، الله. وحتى هذه، على الأرجح، ليست أصولها عربية. ومع ذلك فإنّ صلاتهم جائزة، وعبادتهم جائزة، وليس مطلوبا منهم أن يفهموا اللغة التي نزل بها القرآن. ومرّة أخرى، ليس هكذا يكون الدّستور.
ثالثاً، العَلمانية إقصاء للدين من الحياة : وهذه خديعة ثالثة وفرية رائجة، روجت لها جماعات الإسلام السياسي بلا وجه حق غير التعمية والتمويه. والحال أن للعلمانية ترجمات وتجليات مختلفة ومتفاوتة وليس ضمنها ما يفيد “إقصاء الدين” من الحياة. إحدى تجلياتها الفصل بين وظيفة الدين ووظيفة الدولة على الطريقة الفرنسية، وبعض تجلياتها الأخرى أن تعترف الدولة بالأديان والطوائف والمذاهب الموجودة على قدم المساواة مع اعتبار
“العلمانيين” طائفة مستقلة وفق الطريقة البلجيكية مثلا. وهناك منظومات تعليمية تقحم المواد الدينية بطريقة غير إلزامية وأحيانا دون احتسابها في الامتحانات، كما هو الحال في بعض مقاطعات ألمانيا وإسبانيا، وقد تدخل الرموز الدينية إلى مؤسسات الدولة كما الحال في أمريكا حيث يؤدي العديد من المسؤولين المنتخبين قَسَم اليمين بأسلوب ديني لكن كل واحد له الحق في استعمال أسلوبه وكتابه المقدّس ( الإنجيل، التوراة، القرآن…). على أن المشترك بين كل هذه التجارب هو مبدأ الحياد الديني والطائفي والمذهبي لمؤسسات الدولة. هذا الحياد يجب أن يتوفر بنحو واضح لا لبس فيه في السلطتين القضائية والتشريعية، كما يجب أن يتحقّق في كل من القانون الجنائي وقانون الأسرة والمنهاج المدرسي.
رابعا، الأنظمة العربية فاسدة أو خائنة لأنّها علمانية : انطلاقا من هذه الخديعة والفريّة حاول الإسلام السياسي أن يروج بأن الثورات على أنظمة مبارك والقذافي وصالح والأسد ما هي إلا ثورات شعوب إسلامية على أنظمة فاسدة لأنها علمانية. إنه التأويل الذي بزغ بادئ الأمر مع القادة الإيرانيين في قراءتهم لما كان يسمى بـ”الرّبيع العربي” حين توهموا بأنه يقع ضمن خط الثورة الإيرانية، قبل أن يطال الحريق حليفهم السوري. إن إصرار أنصار الإسلام السياسي على وصف الأنظمة “العربية” بالعلمانية، لا يجانب الصواب وحسب، لكنه يتجنى على المفاهيم ويحتقر عقل المتلقي. والحق يقال، سيكون من باب التغابي أن نرى العلمانية في قوانين جنائية تعاقب على “الردة” وتجرم الإفطار العلني في رمضان؛ سيكون من باب الاستغباء أن نصف القذافي بالحاكم العلماني وهو الذي كانت القبائل الإفريقية تعلن إسلامها على يديه ويؤمها في بعض الصلوات بالساعات؛ سيكون من باب التجاهل أن نعتبر الأسد حاكما علمانيا وهو الذي ساند المقاومة الإسلامية (حماس والجهاد) ودعم حزب الله وأكثر من بناء المساجد والمراكز الدينية على حساب دور السينما والمسرح والمراكز الثقافية ثم فتح البلد في الأخير على ملالي إيران؛ سيكون من باب الاستجهال أن نرى العلمانية في مناهج دراسية تعلي من شأن شريعة الإسلام وفق المذهب السائد في البلد؛ وسيكون من باب الافتراء على النفس أن نرى العلمانية في دساتير تجعل الشريعة مصدرا للتشريع.


خامسا، الإسلام السياسي هو التعبير السياسي عن الإسلام : وهنا مورس خلط كبير للأوراق، فأوشكت تيارات الإسلام السياسي أن تحتكر تمثيل الإسلام، وتمسح الأرض من كل الإسلامات الأخرى المتنوعة والغنية، من الإسلام الصوفي، إلى الإسلام الشعبي، إلى الإسلام القرآني، إلى إسلام المذاهب الأخرى من شيعة وإباضية وزيدية وغيرها، وبات الإسلام السياسي يقدم نفسه في كل مناسبة أو بلا مناسبة باعتباره الممثل الشرعي والوحيد للإسلام. هكذا أصبح التصويت على أحزاب الإسلام السياسي في الانتخابات يبدو للبعض كأنه تصويتا على الإسلام ونصرة للمسلمين، ويبدو الانتماء إليها كأنه انضمام للإسلام وولاء للمسلمين. وفي الواقع، لم يكن الإسلام السياسي سوى محاولة فاشلة لإنشاء طائفة جديدة داخل الإسلام. لربما توقع البعض بأن تلك الطائفة ستنجح، بسبب الممارسة السياسية ( البراكسيس بلغة الماركسيين )، في إفراز تجديد فقهي وفكري ملموس، ولو بعد حين، لكن الحاصل أن عقوداً طويلة عن الممارسة كشفت بأن التركيز “الاجتهادي” على الوصول إلى السلطة قد خفض السقف الاجتهادي وجعله أدنى حتى من مستوى الموروث الفقهي القديم، بل انحدر السقف بفعل الإيديولوجية القُطبية ( نسبة إلى سيد قطب ومحمد قطب )، ثم تمّ الزواج بين الإيديولوجية القطبية والإيديولوجية الوهابية أثناء مواجهة الناصرية والشيوعية أولاً، وبعدهاارتدّ السّيف إلى نحره، حتى بلغت الأمور الدّرك الأسفل من جحيم الفتنة.
كن مدون

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يرجى التكرم بالالتزام بقواعد حرية الراي وحقوق النشر

ابحث في الارشيف

الدانة نيوز الصفحة الرئيسية

الدانة نيوز الصفحة الرئيسية
الدانة نيوز هي اداة اعلامية تشكل مدخلا لمعرفة ما يدور في العالم على جميع الاصعدة والمجالات

احدث الاخبار .. الشبكة الاعلامية

إضافة سلايدر الاخبار بالصور الجانبية

صفمة المقالات

الاكثر قراءة

تابعونا النشرة الاخبارية على الفيسبوك

-----تابعونا النشرة الاخبارية على الفيسبوك

حكيم الاعلام الجديد

https://www.flickr.com/photos/125909665@N04/ 
حكيم الاعلام الجديد

مشاركة مميزة

ما هي الروح ... لا وجود للروح

ما هي الروح ... لا وجود للروح ما هي الروح من انتم لتفسروا ما هي الروح ؟؟ علق بعض السادة المحترمين على موضوع خرافة الروح وتاكيد...

تابعنا على الفيسبوك

------------- - - يسعدنا اعجابكم بصفحتنا يشرفنا متابعتكم لنا

أتصل بنا

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

شرفونا بزيارتكم لصفحتنا على الانستغرام

شرفونا بزيارتكم لصفحتنا على الانستغرام
الانستغرام

نيو سيرفيس سنتر متخصصون في الاعلام والعلاقات العامة

نيو سيرفيس سنتر متخصصون في الاعلام والعلاقات العامة
مؤسستنا الرائدة في عالم الخدمات الاعلامية والعلاقات العامة ةالتمويل ودراسات الجدوى ةتقييم المشاريع

اعلن معنا

سلايدر الصور الرئيسي

اعلان سيارات

اعلن معنا

اعلن معنا
معنا تصل لجمهورك

خدمات نيو سيرقيس

خدمات رائدة تقدمها مؤسسة نيو سيرفيس سنتر ---
مؤسسة نيوسيرفيس سنتر ترحب بكم 

خدماتنا ** خدماتنا ** خدماتنا 

اولا : تمويل المشاريع الكبرى في جميع الدول العربية والعالم 

ثانيا : تسويق وترويج واشهار شركاتكم ومؤسساتكم واعمالكم 

ثالثا : تقديم خدمة العلاقات العامة والاعلام للمؤسسات والافراد

رابعا : تقديم خدمة دراسات الجدوى من خلال التعاون مع مؤسسات صديقة

خامسا : تنظيم الحملات الاعلانية 

سادسا: توفير الخبرات من الموظفين في مختلف المجالات 

نرحب بكم اجمل ترحيب 
الاتصال واتس اب / ماسنجر / فايبر : هاتف 94003878 - 965
 
او الاتصال على البريد الالكتروني 
danaegenvy9090@gmail.com
 
اضغط هنا لمزيد من المعلومات 

اهلا ومرحبا بكم

وكالة انباء الدانة – مؤسسة عربية مستقلة – متخصصة في الاعلام والعلاقات العامة

ابحث في الموقع عن المواضيع المنشورة




لقاء مع المفكر التوسي يوسف الصديق

* * * المفكر التوسي يوسف الصديق: المصحف عمل إنساني يختلف عن القرآن ويجب الإطاحة بالأزهر والزيتونة